بعد افتتاحه في صالةِ «رسالات» (بيروت) التي شكّلت محطته الأولى، انتقل المعرض الفنيّ العاشورائي «ما رأيت إلا جميلاً» الذي تنظمه المستشاريةُ الثقافيةُ الإيرانية، إلى «حديقة السيدة المعصومية» في مدينة النبطية (الجنوب) ضمن برنامج غني وطموح يواكب المرحلة الجديدة من نشاط المستشارية في لبنان. أتيحت لنا زيارة المعرض في محطته البيروتية قبل انتقاله إلى الجنوب. وأنتَ تقتربُ من مكان الحدَث، تحدّثُكَ خُطى زينب وأنتَ تلاحقُ أولَ صدى لموسيقى جواد معروفي «الأحلام الذهبيّة»، التي تصدحُ في الأرجاء، حاضنةً معرضاً لأعمالٍ مختلفة لفنانين إيرانيين جاؤوا يقولونَ بعضاً ممّا أجادوا التعبيرَ عنه بطريقتهم الخاصة.تحدثُكَ خُطى زينب... لأنك جئتَ تعرفُ العنوانَ مسبقاً «ما رأيتُ إلا جميلاً» ولأنّ روحاً فارسيةً تخيّم على المعرضِ، فتسمعُ همهماتِ الفنانين يشرحونَ للحضورِ تفاصيلَ أعمالهم بمساعدةِ مترجمين عربٍ وأجانب. تشعرُ بأنّ «زينب» العربيةَ التي بكيتَ مصيبتَها، تجلّت هنا حضوراً من نوعٍ آخر، محفوفاً بعشقِ أبناءِ هذه الأرض، التي حاول فنانوها أن يعبّروا، فأبدعوا.


فنّ جدارياتِ المقاهي نوعٌ من الفنون التي بدأت ملامحها تظهر إبّانَ أحداث إيران السياسية خلال الأربعينيات؛ هذه الحقبة من حكومة القاجاريين. تعودُ جذور هذا الفنّ إلى مجالس الحكواتيين وجلسات الرثاء والعزاء إحياءً للوقائع مثل أحداث عاشوراء، تحديداً في حقبةٍ من الزمن، كانت إيران تعيش فيها تجاذباً ثنائياً من روسيا وبريطانيا على مختلف الصعد، فجاء هذا الفن الشعبي سلاحاً ثقافياً يعبّرُ عن رفض الغزو الثقافي والحضاري الخارجي وهيمنته على أصالة الفن الوطني المحلّي. ازدهر هذا الرسمُ في العصر القاجاري، رغم بداية تشكّلِ خطوطه في العهد الصفويّ، بعدَ قدوم العامليّين، فلعب دورَ الرسالة، لا سيما في تعريف واقعة كربلاء الحسين. هذه الستائرُ المنقوشة الدرويشية باتت تغطّي كل جدران المقاهي والمجالس الشعبية والمتاحف لاحقاً، وقد كان لها الأثر البالغ في نفوس الناس لما حملته من زخمٍ عاطفيٍّ أبدع الحكواتي أو «النقّال» في صياغتَه وروايته. ورغمَ أنّ موضوع هذا النوع من الرسم كان في الغالب أسطورة الشاهنامة للشاعر الفردوسي التي كانت ملهمةَ الثورات والحماسة، غير أنّه ارتبط لاحقاً بفنّ قراءة مجالس العزاء على لسانِ الحكواتيين في المجالس الشعبية غالباً.
ستائرُ زيتيّةٌ تنتشرُ على يمينِكَ ويساركَ، فلا تعرفُ من أينَ تبدأُ رحلتَك، حتى يتقدّمَ الفنّان الذي تخطّى هنا عملُه دورَ الفنان إلى أن يكونَ قارئاً حسينياً على طريقته الخاصة. يبدأ محاكاةَ حبّكَ لأهل البيت بابتسامته السمحة، ثم يخبرُكَ أن القصةَ بدأت هناك، عند الستارة أو الجدارية الأولى، عندما طالبوا الحسينَ بالمبايعة، ويكملُ سردَه مشيراً إلى كل المراحل التي رسمها بدقةٍ وبخيالٍ وضّاح على الستارةِ فصارت اللوحةً مجموعةً من قصصٍ متلاحمة.


تنتقلُ إلى الستارة الثانية والثالثة، وما زال جواد معروفي يعزفُ الوجع. ترى روايةَ زينب في ثلاثة أشكالٍ مختلفة، فيخبركَ الرسامُ السيد حسيني بأنّ أحد عشاق أهل البيت مارسَ رياضةً روحيةً واعتكف أربعين ليلةً حتى يرى مناماً يلهمه بالرواية الصحيحة، أكانت وفاة زينب في الشام، أم استشهادها في مصر. فيرى الزهراء تقول له بما معناه «علامَ تبحث؟ دع الروايات تتعدد، فزينب كانت مبلّغة في حياتها، وبعد مماتها ستبلغُ قصتُها مسامعَ كلّ بقاع الأرض». بهذه الدقة، يوصل فنان الستائر الدرويشية هذه الرسالة التي تبرز الأحداث التاريخية بأجمل حلّة. لا يتركُكَ تجولُ وحدَك. عليكَ أن تصغيَ لما يرويه وأنتَ تمشي. حتى إنه يرى ذلك من واجبه، لأنّ هذا النوع من الفن كان منذ البداية فناً شعبياً يقدّمُ الصورةَ والحكايةَ في آنٍ معاً، فتبصرُ الجمال وتسمعُ الكلام. هكذا تجمعُ حواسُّكَ بين اللون البصري واللغة، الرسم والموسيقى والمسرح معاً، الفنون التمثيلية وغير التمثيلية معاً، فتستحضرُ هرمَ هيغل وسلّم شوبنهاور للفنون، وتستمتعُ بارتقاء روحِكَ هنا. ينتقلُ الفنانُ بستارتِه الملفوفة يحملها في يده، ويروي حكايةَ لوحته مع كثيرٍ من العاطفة والتأثر حيثما سمحت له الفرصة. ربما في مقهى، أو متحفٍ أو مجلس هنا أو هناك.
جاء هذا الفن الشعبي سلاحاً رافضاً للغزو الثقافي الخارجي وهيمنته على الأصالة المحلّية


عند الستارة الأخيرة، تعلو موسيقى معروفي صاخبةً، وتعلو مستوياتُ الأدرينالين لديكَ عند قيام المختار الثقفي، حيث تبدأُ حكايةُ إحقاق الحق وانتكاسة الباطل. في الرواق الآخر، لوحاتٌ خشبيةٌ نقشت عليها زخرفاتٌ بموادّ مختلفة من أكريليك وحبر وزيت، تجسّدُ الملحمة بلونين كانا غالبين في الأعمال: الأحمر والأسود. تسيرُ قدماً لتجدَ مخطوطاتٍ وجدارياتٍ تحملُ عباراتٍ عاشورائيةً عبّر عنها فنّ الخطّ بروحٍ جديدة، فكأنّما الكلمةُ تتمايلُ مع أنغام اللحن الحزين، فتنطقُ العبارةُ التي جئتَ تعيشُها ويبتسمُ لكَ الفنان الذي يغطّ القصبَ في الحبرِ ويكتب: «ما رأيتُ إلا جميلاً». أيقوناتٌ كثيرة ونقوشٌ على أحجارٍ كريمةٍ وألبومات صور للوحاتٍ من فنّ المينياتور الإيراني للكبير فرشجیان، وعدةٍ من فنانين وخطاطين ذاع صيتُ إبداعهم في العالم، لكنه في هذه المناسبة، حلَّ بروحٍ مختلفة.
تخرجُ من الصالةِ ولا تريدُ الخروج. لقد أودعتَ بين ثنايا هذه الصالة وطيّاتِ تلك الستائرِ دمعاً وابتساماتٍ. وقد حفظتَ وجوهَ فنانينَ طُبِعَت الآنَ ملامحُهم في ذاكرتِكَ القادمة، وأنتَ ذاهلٌ تسألُ نفسَك «بمَ شعروا حتى رسموا الحكاية بهذا الجمال؟». معرضٌ من نوعٍ آخر. بصريٌّ ناطقٌ معاً. فيه من الإلهام ما يصالحُ بين الألم والجمال.

* معرض «ما رأيت إلا جميلاً»: حتى 5 تشرين الأول (أكتوبر) من الساعة الخامسة عصراً حتى الثامنة مساء ــ «حديقة السيدة المعصومية» في مدينة النبطية (جنوب لبنان)