الجونة | دهشة مشوبة بالفرح والتساؤل سادت احتفال ختام الدورة الثالثة من «مهرجان الجونة» عندما راحت الأفلام العربية تنتزع الجوائز، الواحدة تلو الأخرى، في مختلف المسابقات والأقسام، حتى إنّ أحد الزملاء علّق بعد نهاية الاحتفال ممازحاً: «كان المفروض يسموه مهرجان الجونة للسينما العربية!». مقارنة بالدورتَين السابقتين، شهدت الدورة الثالثة التي اختُتمت قبل أيام، مشاركات عربية أقوى وأكثر تنوعاً. ولكن يصعب أن نقول إنّها أقوى من الأعمال الدولية التي كانت تستحق الكثير من الجوائز، وتجاهلتها لجان التحكيم المختلفة، لسبب أو لآخر، ربما من بينها الرغبة في تسليط الأضواء على السينما المحلية التي تحتاج إلى تشجيع ودعم، خاصة تلك التي تأتي من بلاد لا تعرف فن السينما، مثل السودان، التي حصدت الجائزتين الكبريين في المهرجان. بل إن كلا الفيلمين الفائزين يتحدثان عن صعوبة صنع ومشاهدة السينما في السودان! في الأول، وهو «ستموت في العشرين» للمخرج أمجد أبو العلاء الذي حصل على الجائزة الذهبية كأفضل فيلم روائي طويل (قيمتها 50 ألف دولار)، تمثل السينما المعادل الموضوعي للحياة نفسها. عندما يلتقي الصبي، المحكوم عليه بالموت بواسطة نبوءة خرافية، برجل مسنّ كان يعمل كمصور سينمائي ولديه عشرات الأفلام الكلاسيكية على شرائط قديمة يعرضها على الحائط، ينبهر الصبي ويصبح أسيراً للأفلام وعشق الحياة الذي يمثله الرجل.
حصل «ستموت في العشرين» للمخرج أمجد أبو العلاء على الجائزة الذهبية كأفضل فيلم روائي طويل

الثاني، وهو وثائقي «حديث عن الأشجار» للمخرج صهيب قسم الباري (ذهبية أفضل عمل وثائقي ــــ 30 ألف دولار)، يصوّر أربعة مخرجين سينمائيين سودانيين أصغرهم تجاوز الستين وأكبرهم تجاوز الثمانين، يحاولون استعادة إنشاء نادٍ للسينما في دار عرض قديمة ومهجورة اسمها «سينما الثورة» في بلد محكوم بالعسكريين والمتطرفين الدينيين، يكره كلاهما السينما والفن.
في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، فاز فيلم «عيد القربان» للمخرج البولندي يان كوماسا، بالجائزة الفضية وجائزة أفضل ممثل لبطله بارتوش بيلينا. أما الجائزة البرونزية، فذهبت للفيلم المغربي «آدم» للمخرجة مريم التوزاني، علماً أنّه من إنتاج المخرج المعروف نبيل عيوش، الذي شارك في كتابة السيناريو أيضاً، ويبدو تأثيره ممتداً عبر عناصر الفيلم الأخرى.
«آدم» فيلم نسوي بامتياز، وفوق ذلك هو عمل فني راقٍ يتّسم بتصوير معبّر وحساس وإخراج متمكّن وسلس وأداء تمثيلي بديع من بطلتيه، المخضرمة لبنى أزابال، والصاعدة نسرين الراضي. يدور «آدم» حول العلاقة التي تربط شابة حبلى هاربة من بلدتها بأرملة وحيدة تعيش مع ابنتها وتعمل كخبازة في الحي الفقير الذي تسكن فيه. تقرر الأرملة إيواء الشابة العزلاء، رغم القيل والقال، وتطفّل الجارات، بدافع الرأفة أولاً، لمدة ليلة واحدة، ثم بضع ليال، ثم بضعة أشهر، حتى تضع مولودها، وفي المقابل تساعد الضيفة في أعمال المخبز، وتنمو بينهما صداقة وتضامن نسوي يصل إلى المحك عندما تضع الضيفة طفلها وتكتشف المضيفة أنها تنوي التخلص منه!
«آدم» فيلم نسوي بامتياز، يتّسم بتصوير معبّر وحساس وإخراج متمكّن وسلس وأداء تمثيلي بديع


أما جائزة أفضل ممثلة، فقد ذهبت للنجمة هند صبري عن دورها في الفيلم التونسي «حلم نورا» للمخرجة هند بو جمعة. «حلم نورا» فيلم نسوي آخر، يتعاطف مع امرأة ريفية لا تحب زوجها، اللص، الذي يُسجن لأعوام، تاركاً لها مسؤولية إعالة أطفالهما الثلاثة، وتقع نورا في عشق رجل آخر، ماضية في إجراءات الطلاق، قبل أن يتم الإفراج عن زوجها، الذي يشك في إخلاصها.
«ثيمة» نمطية أكلت عليها الميلودراما المصرية وشربت، ولكنها مقدَّمة بلغة سينمائية حديثة وتمثيل معقول من هند صبري، ربما نختلف حول استحقاقه للفوز بجائزة أفضل ممثلة مع وجود أعمال أخرى تضم أداءات تمثيلية مذهلة، مثل الألماني «لارا» والغواتيمالي «المرأة الباكية».
إلى جانب الجوائز الأساسية، يخصص المهرجان أيضاً جائزة لأفضل فيلم عربي، وقد مُنحت هذه الجائزة للفيلم الجزائري «بابيشا». ومثل «آدم» و«حلم نورا»، فإن «بابيشا» عمل أول من إخراج امرأة هي مونية مدور. وهو أيضاً فيلم نسوي يعود في الزمن عشرين عاماً ليرصد أشكال الاضطهاد والمذابح التي كانت ترتكب ضد النساء بشكل خاص من قِبل الجماعات الإسلامية خلال فترة العشرية السوداء في الجزائر. نرى ذلك من خلال قصة طالبة جامعية موهوبة في تصميم الملابس النسائية، تتعرض أختها للاغتيال، ولكنها تصرّ على المقاومة بتنظيم عرض أزياء داخل مسكن الطالبات المحاصر والمستهدف من قِبل المتطرفين. والفيلم ـــ كما تذكر عناوينه ـــــ مقتبس عن وقائع حقيقية مرّت بها المخرجة.
اكتساح الأفلام العربية للجوائز يتكرر في مسابقة الأفلام الوثائقية. إلى جانب الذهبية التي حصل عليها «حديث عن الأشجار»، ذهبت الفضية إلى الفيلم الجزائري «134 شارع الصحراء» للمخرج حسن فرحاني. كما ذهبت جائزة أفضل فيلم عربي إلى اللبناني الفلسطيني «ابراهيم، إلى أجل غير مسمى» من إخراج لينا العبد، التي تعود في الزمن لتستكشف أسرار «استشهاد» أو «اغتيال» أبيها، المناضل الفلسطيني، وعضو «تنظيم أبو نضال» السري، عام 1987، عندما كان عمرها مجرد أعوام.
الأمر نفسه يتكرر في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة التي فازت بمعظمها أفلام عربية، حيث حصل اللبناني «أمي» (إخراج وسيم جعجع) على الجائزة الفضية. يدور «أمي» المستلهم من سيرة المخرج نفسه، حول الطفل إلياس، الذي يعيش في أحد الأحياء المسيحية الصغيرة. تموت أمه، فيقرر سرقة تمثال العذراء من الكنيسة، ليساوم الرب على إعادة أمه له. الفيلم يغلف الفلسفة بالكوميديا ويبين بشكل غير مباشر طبيعة الحياة في هذه المجتمعات المغلقة على نفسها.
أما الجائزة البرونزية، ففاز بها الفيلم الأردني «سلام» للمخرجة زين دريعي. وهو عمل يذكرنا بفيلم اللبناني أسد فولدكار الأول «لما حكيت مريم» سواء في قصته أو روحه. وأخيراً ذهبت جائزة اتحاد النقاد الدولي للفيلم اللبناني «1982» للمخرج وليد مونس وبطولة نادين لبكي. علماً أنّ الشريط يدور داخل مدرسة ابتدائية عشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. وفاز فيلم لبناني آخر هو «نفس» للمخرج ريمي عيتاني بـ «شهادة منصة الجونة السينمائية» (إنتاج ديما الجندي).
المدهش أن الأفلام السابقة كلها هي أعمال أولى لمخرجاتها ومخرجيها، باستثناء «134 شارع الصحراء»، الذي يعد العمل الثاني لمخرجه.
بشكل عام، يمكن أن نقول إن السينما العربية تشهد ميلاداً وازدهاراً ملحوظاً في أكثر من مكان، وأن «الجونة 3» شكل منصة مثالية للتعريف بهذه الأعمال وأصحابها، ولو على حساب مكانة المهرجان الدولية.