أعاد فلاسفة الأنوار قراءة «العمى»، فجعلوا منه تفكراً داخلياً في أشياء العالم واستفزازاً للحواس. كانوا أول من طوَّر نظريات حول قدرة الأعمى على إعادة إنتاج المعنى ومعه العالم. هنا صار العمى أداة قوة لا عجزاً وضعفاً. نصوص نجيب مبارك انخرطت ربما في هذه الوجهة، وجعل عميانه مفككين للعالم الذي نراه وخالقين لآخر جديد. ديوان نجيب مبارك يحمل عنوان «على مرأى من العميان» (دار مرسم). كثيرا ما تكون العناوين حاملاً لمعنى النص. هنا يتحقق الأمر، فعنوان الديوان الثاني للشاعر المغربي فخ ومحفز في الآن ذاته لقارئ النص، وإشارة قوية إلى أن القصيدة هنا لها علاقة وثيقة بفعل النظر. ينظر نجيب مبارك إلى أشياء العالم، لكنه يتجاوز فعل النظر إلى فعل الإبصار. وكأننا أمام أحلام مدينة تراها بصيرة عميان. بهذا، في بعض القصائد، يتحول سأم مدينة الرباط البيروقراطية، حيث يقيم الشاعر، إلى قيامات صغيرة تتبع شخوصاً هامشيين كالحوذي الذي يفقد زر معطفه الأسود أمام عمارة السعادة الشهيرة بمركز المدينة. شخوص تتحول بهذا إلى استعارات عن حياة مؤجلة حيث الحوذي «لم يكن يعرف أن الخوف/ أيضا / قد يخسر من يأويه".
يتكرر فعل السير في أكثر من نص، ومعه الاكتشاف لأشخاص وكائنات العالم وظواهر الطبيعة: «الحيتان، واليرقات، والعواصف والطيور» كلها تتجاور مع أشخاص يمسكون بخيوط الألم والحزن الشفاف. قصائد نجيب مبارك المنحدر من الشمال المغربي، ومن تقاليد أندلسية أعطت للطبيعة حيزاً كبيراً في الأدب، تحاور الطبيعة في أكثر من موضع. وفي أكثر من موضع ونحن نقرأ نصه نحسّ كما لو أننا أمام إضاءة لوحات رامبرانت معدلة رقمياً.. فإن كان نصه ذا نفس جرّبته الكثير من المغامرات الشعرية عربياً وعالمياً، وهو تصريف المشاعر عبر الطبيعة، إلا أن نصه يحمل فرادة تجعله من التجارب الشعرية المهمة في الجيل الشعري المغربي. نص يحتفظ بنفس أصيل يميزه عن باقي ما يكتب من شعر، وفي الآن ذاته يحمل نفسا معاصراً وحديثاً بامتياز.
تملك اليومي ومعالم المدن نقله مبارك إلى عالم شعري كأننا بداخله نهيم في جولة تمتد عبر أصقاع الأرض. لم يُضيّع الشاعر خريطة العالم وهو ينصت للأحداث التي تعيشها المنطقة، رغم أن نصه «جزيرة اليمبوس» يتحدث عن «بهلوان يهمس لشاعر/ ضيع الخارطة قبل أن يمشي في ألم: / هذه الأرض/ تبللت بالدماء والبترول/ هذه الأجساد/ تكدست في مصعد واحد/ وكل هذه الأرواح/ نزحت في الساعة القصوى / إلى جزيرة اليمبوس».
تسافر قصائد مبارك بين المدن والمرجعيات كما يفعل في حياته الشخصية.. لكنها رحلات ذكية، لاتحتاج إلى يافطاتٍ درج بعض الكتاب العرب على رفعها في نصوص صارت عادة أدبية سيئة. نصوص غارقة في «الكليشيه»، حيث يحاول كتاب سافروا إلى مدينة أياما قليلة إيهامنا أنهم تملّكوا تجربة قصوى في الحياة، وصاروا عارفين بروح المدينة. قصائد مبارك، لا تحمل هذه الادعاءات، فهي شخصية وترتبط بالذات أساساً، وتعمد أيضاً إلى تهديم الواقع وبناء آخر شبه حلمي يقترب في مواضع عدة من السوريالية. في «إسبارطة»، يوقظ الجثث ليرميها في البحر كتمرين من تمارين عبادة أبولو.. وفي «بورتو أليغري»، يجثو على حقيبته في آخر الليل ويتركها فريسة للصوص فقط لأنه لا يعرف جيدا ما الفرق بين الأبيض والأسود، وفي «الطريق الرومانسي» بألمانيا يدرك أن «كل ذلك البياض/ من أجل ياقوتة مزيفة/ من أجل حرف A لازوردي تافه/ اشتريته في طريق العودة».
يعود نجيب مبارك إلى أرض الشعر منذ التسعينات من القرن الماضي. فهو نشر نصوصه في مجلات وملاحق أدبية مغربية وعربية. لكنه لم يقرر تجميع نصوصه في ديوان إلا في منتصف العشرية الأولى من القرن العشرين. في «تركت الأرض لآخرين»، الحائز جائزة اتحاد كتاب المغرب. الجائزة لم تكن مصادفة في تجربة مبارك ذي الثقافة الواسعة. وهي ثقافة تنتقل إلى بعض نصوص «على مرأى من العميان»، فيوزع قلقه وتحاياه على الماغوط وبودلير وماريانو بيرتوتشي وبريخت ونيتشه. الكثير من نصوص الديوان الموزع على أربعة أقسام «توريط الجسر في مونولوغ» و«أحجار صلبة كالغرائز» و«فحم وفانيلا» و«استرجاع قوت الأرض»، تتورط في تأمل سقوط العالم.
يتنوع طول النصوص وتقطيعها، لكنها تحفظ قلقاً وجودياً شفيفاً. كأن الشاعر في رحلة بحث عن الزمن الذي يهرب دوماً إلى الأمام، فتمر «الساعات في ما تبقى من الليل. تمر من الآن فصاعدا كموكب جنازات في طريقه الميناء»، ليقرر الشاعر عقد هدنة بعد حربه مع الحواس: «سأجلس في انتظار / أن يصعد جاري العجوز/ من الكهف/ ليثبت الكراسي في مواقعها/ ويعلن نهاية التفاوض/ على الحافة».