في السابع من أيلول (سبتمبر) من العام الفائت، وفي مثل هذه الأيام تقريباً، لاحظت «النهار» اللبنانية، أن جرافات إسرائيلية تنشط على «تلة مشرفة من لبنان». وكان صعباً على ما يبدو على المحرر، تحديد التلة أو القرية اللبنانية في الجنوب، لأنها بعيدة عن «المركز». يتابع الخبر: «... في بناء جدار شاهق يفصل الدولة العبرية عن حزب الله في الجانب الآخر من الحدود». وإذا سلمنا جدلاً استحالة تأكد «النهار» من الأصول العبرانية لدولة الاحتلال بصيغتها التي قامت عليها، وضرورة تجنب المصطلح من دون الحاجة للاستعانة بمؤرخ من وزن إريك هوبزباوم أو على الأقل بشلومو ساند، يبقى السؤال «الوجودي» عن الاكتفاء بنقل الخبر على مقاس السردية الإسرائيلية، أي فصل «الدولة» (المكونة من مستعمرين ومستوطنين ومحتلين) عن «حزب الله». ما نفهمه من الخبر، بالصيغة التي تنقله فيها الصحيفة العريقة، من دون أي تدخل، عن وكالة الصحافة الفرنسية، أن ثمة دولة تقوم بإجراءات احترازية ضدّ منظمة مسلحة. أما السكان، فيختفون من الخبر، كما يحاول الجدار نفسه محوهم من الحقيقة. الجدران ليست اسمنتية دائماً، لكن ما نتحدث عنه هنا هو الاسمنت. ورغم كل شيء، الطقس في بلدة العديسة جنوب لبنان هادئ مثل البلدة نفسها. الجبال هي الجبال تلتقي بأنصافها في الجانب الفلسطيني من الحدود بلا تكلف، والسماء للجميع. لكن تخيّل الجدار ليس كالوقوف خلف الجدار حيث تتقزم الروح وتتضاءل. والحديث عن انقطاع الهواء ليس مثل انحسار الرئتين. كتل الاسمنت المرصوفة في الصور تبقى مرصوفةً في صور، ولكنها عن قرب ترصف في القلب. الساكنون أقاموا تسوية بينهم وبين أنفسهم وبين بعضهم على ما يبدو، قضت بالاكتفاء بالاعتراض. فالجدار عملياً يأخذ حصتهم من البصر ومن المكان، لكن يجوز الافتراض أنهم أقل قلقاً من الفلسطينيين في الضفة أو في غزة.
عنف الواحد ضدّ الجميع
للجدار وظائف متعددة. آلة قتل يستخدمها الاحتلال متحصناً خلفها بمسافات بعيدة. ولأن الاسمنت غُرِز في قلبها تشعر الجبال نيابةً عن السكان المعزولين، بشدة فتك الجدار وقدرته على تلويث المكان. الجدار أيضاً محاولة للتعبير عن السُلطة على نحو متطرف. وهذا التطرف يلاقي وصفاً طبيعياً في ما تسميه آنا آرندت «الجميع ضدّ الواحد»، أي تحويل الآخر إلى «واحد» والاحتفاظ بقدرة «الجميع» المتمثلة بالبناء والتحصن. لكن المفارفة، أن آرندت نفسها تنبّه إلى أن العنف يصير في أوجه عندما ينطلق من شعار «الواحد ضدّ الجميع». وهذا الواحد، هو المحاط بين جدران ستة، حيث يصير الأكثر عنفاً، مهما حاول نقل عنفه إلى الآخرين. العنف الذي تتحدث عنه آرندت، إلى حدٍّ كبير هو عنف الإسرائيليين، خاصةً أن هذا الصنف الرهيب من العنف ليس متاحاً من دون استخدام متواتر ومستمرّ لأدوات القمع، طالما أننا نتحدث عن الجدار. والعنف، دائماً حسب آرندت، يقترن بأداة إنتاجه. وهذه الأدوات، هي أدوات مصممة لتتجاوز القوة والقدرة، لتأخذ مكانها في النهاية. الجدار عنف خالص. والعنف ليس جيوسياسياً أو تبسيطياً لدرجة أن يكون أمنياً وحسب.
يتحدث الإسرائيليون عن «الأمن» وفي خطأ شنيع، تكاد معظم الآراء حتى في بلادنا أن تتبنى هذه السردية


يتحدث أنطوني جيدنز عن العلاقات الاجتماعية الآخذة في التشعب حول العالم. «تمدد العلاقات»: هذا ما يحدث في بقع صغيرة ومحدّدة إلى بقع أكبر منها وأبعد عنها. ليس ضرورياً التذكير بأن تمدد العلاقات لا يعني «تطبيعها». ورغم أن الأنتروبولوجيين يعتقدون أن أوضح تفسير لنظرية جيدنز يتمظهر في العولمة، لكن «تجريب» نظرية السوسيولوجي البريطاني في حقل جيوسياسي كالجدار، يبدو أمراً مغرياً. بمعنى ما، السعادة التي يسببها الجدار لمنتعلي الأحذية الضخمة والمتحصنين في نقاط مرتفعة مع مناظيرهم، وعبر علاقة سببية واضحة، واشتراك عدة عوامل، هو تعاسة المسجونين خلف الجدار. من المتوقع، حسب طموحات الاحتلال أن يمتد الجدار بعد الانتهاء من بنائه على مسافة 130 كيلومتراً، أي على طول الحدود. ليس فقط من قريتي العديسة أو من مركبا الوديعتين، بل من أي زاوية تنظر إلى كتل الإسمنت الضخمة، سيتجاوز الموضوع الفكرة المعلنة عن الأمن. يتعلق الأمر بالسيطرة والتحكم، بتحويل أنظمة المراقبة إلى حالة ثابتة. بين الجنوب والجليل الفلسطيني المحتل، يتحدث الإسرائيليون عن «الأمن». وفي خطأ شنيع، تكاد معظم الآراء حتى في بلادنا أن تتبنى السردية الإسرائيلية. لكن الجدار نفسه لديه وظيفة العزل في غزة، والسطو والقضم في الضفة، وهو في الأماكن المتبقية محاولة لتأكيد السُلطة وليس دليلاً إلى الانعزال. والأمر ليس مستقلاً عن الطبيعة الكولونيالية، لأن الأخيرة وفي سياقاتها المتعددة، ضمنت للأقلية من السكان التحكم بالعالم عبر احتكار القوة، من دون أي مشاركة. الاستمرار في إنكار الطبيعة القاسية للجدار وادعاء إمكان العيش معه، ليس دليلاً سوى على الخضوع.

العلاقة مع الماضي
من الناحية العملية، الجدار الذي نتحدث عنه مصنوع من كتل خرسانية ترتفع تسعة أمتار. ثمة أنابيب ناتئة من هيكله الكريه، يستخدمها الاحتلال لإضافة الكاميرات الكريهة وأجهزة التحسس الكريهة، كما يضاف إليه الأسلاك الكهربائية والفولاذية الكريهة أيضاً. لكن من الناحية السيميائية، ربما لا يكون الأمر سوى تصفية حسابات مع الماضي. ليس بالضرورة أن يكون الجدار حنيناً إلى أسوار أريحا. ربما يكون صوراً مقتطعة من التاريخ الحديث، من فظاعات النازية، التي خلف جدرانها العملاقة في الغيتوات سُحِقت الأصوات وحدثت جرائم كبرى. قد يكون غريباً فعلاً أن يكون الجدار انتصاراً للتاريخانية، بالمعنى الذي يتحدث عنها فريدريك جامسون، بوصفها عكس عودة إلى الماضي وتكاثراً للإحالات. عودة إلى العلاقة بالماضي، أكثر من العودة إلى الماضي نفسه. انتقام من الماضي باستحضاره. المفارقة أن جامسون تفسه، في كتابه عن الحداثة وما بعدها، يتحدث عن دور الشكل الهندسي في إبراز التمثيلات للماضي. وهذا يعطّل كل الوظائف السابقة للجدار، على الأقل من الناحية المعنوية، لأنه «عجز تام للقوة»، حسب تعبير برتراند بادي. منطق القوة لم يعد سوى ذكرى تاريخية، ولا ينتج سوى عدم الاستقرار.
كيف ما دار الناظر بعينيه حول الجدار، سيلاحظ أثر العنف، وإن كان الاحتلال لا يحتاج إلى دليل، ولا إلى وكالات أنباء. العنف أنتروبولوجي بالدرجة الأولى، ثم يصير سياسياً أو أمنياً أو أيّ شيء آخر. خلال عرضها لإبادة الراوانديين التوتسي، اكتشفت كلودين فيدال بلوغ أقصى درجات الهمجية عن قصد، حيث لا يكتفي القتلة بالقتل، بل يحاولون إلحاق أكبر قدر من الألم بالضحية، والتسبب بالضرر قدر الإمكان. حسب الباحثة الفرنسية، كان كل شيء يحدث على قاعدة أساسية: وجود الآخر في الجوار يمثّل تهديداً قابلاً للاتساع ما يجعله «يجسّد الاضطراب في الداخل». في الطريق من حولا إلى كفركلا، مروراً بالعديسة ومركبا، يقصّ الجدار الجبال إلى نصفين، ويحاول إنتاج صيغة متجددة للآخر على مقاس عنفه الرهيب كأداة عنف. وإذا كان العنف غير ممكن من الناحية الجسدية، فالإسرائيليون أقاموا جداراً يضمن لهم عنفاً مستمراً وبأوجه متعددة.