القاهرة | «الموّال القديم اللي ضحكتوا بيه على الناس في «25 يناير» مش هيتكرّر، ويا ثوّار يناير روحوا (هوهوووه)». هذه العبارة قالتها المذيعة المصرية مها بهنسي أخيراً على قناة «التحرير» التي انطلقت تحت شعار «الشعب يريد تحرير العقول»، بعد أسابيع من إطاحة الرئيس المصري السابق حسني مبارك، قبل أن تنضم إليها بهنسي التي تُصنّف نفسها ضمن «كارهي الثورة»، وتتغيّر سياسة المحطة تدريجاً حتى ضمّت كل هؤلاء الذين يرون أنّ الثورة «مؤامرة» تهدف إلى «هزّ استقرار مصر».
صحيح أنّ حرية الإعلام كانت من أهم مكتسبات ثورة «25 يناير»، لكنّ هناك إعلاميين رفضوا هذا الإنجاز، واستخدموه فقط لوصف الثوّار بالـ«كلاب». بعدها، جاءت مرحلة حكم الإخوان المسلمين لتعطي هؤلاء مبرراً قوياً لتجديد المطالبة بتقييد الإعلام المصري الخاص طبعاً! الإعلام الحكومي ما زال مقيّداً ولم يُفكّ أسره بعد. بعد ثلاثة أعوام وأكثر على انتصار «ميدان التحرير»، لا يمرّ يوم في الإعلام من دون أن تُكال الاتهامات للميدان ولمن قضوا فيه 18 يوماً انتهت بعزل مبارك.
تصريح كالذي أطلقته مها بهنسي كان ليقيم الدنيا ويقعدها قبل «ثورة 30 يونيو». لكن اليوم، الكل يتكلّم كما يحلو له، بينما صوت «ثورة يناير» ما زال غائباً. هل نافق الإعلام المصري الثورة إذاً؟ لا إجابة أخرى عن هذا السؤال إلا نعم. «ثورة يناير» خُدعت على كل المستويات، وأبرز أوجه هذا الخداع على الإطلاق هو الخداع الإعلامي. بعدما بدا للجميع أنّ الثورة ماضية في الانتصار وعصر مبارك إلى زوال، اشترى الإعلاميون وجودهم على الشاشة بمغازلة الثورة. يومها، وصفهم الناس بـ«المتحوّلين»، لكنّهم لم يتوقفوا كثيراً أمام هذا الاتهام، بل واصلوا تحوّلاتهم وصمدوا رغم القائمة السوداء. هكذا، لم تفكّر أي قناة مصرية في فتح الباب أمام وجوه جديدة. وجوه لا تنتمي بالضرورة إلى «الميدان»، لكنّها على الأقل تعرف ماذا تعني كلمة مهنية!
أطرف ما في الأمر أنّ أعداء الثورة الذين لم يتحوّلوا باتوا «الأكثر طلباً» في الأشهر الأخيرة، إذ إنّ ضيوفاً مثل لميس جابر ونائلة عمارة، تحوّلوا إلى مذيعين يهاجمون «ثورة يناير» ومطالبها، لكن في المسألة مكسباً أكيداً. لولا هؤلاء الأشخاص، لما عرفت بهنسي، ومعتزة مهابة ومريم أمين (مذيعتا «راديو 9090») طريقهن إلى مدينة الانتاج الإعلامي. ينحصر عمل هذه الأسماء في التشكيك في «ثورة يناير» ليلاً نهاراً، وفتح الأثير لمن يريد إقناع الشعب المصري بأنّ الخروج إلى الشارع لم ولن يكون الحلّ: «ابقوا في بيوتكم، واستمعوا إلينا، وانتظروا الفرج». باختصار، هكذا يمكن وصف وضع الإعلام المصري حالياً. إنّها عودة إلى سياسة إعلام مبارك، فيما الأخير يجلس مسترخياً على النيل يتابع من شرفته في «مستشفى المعادي للقوات المسلحة» كل ما يجري في البلاد التي حكمها على مدى 30 عاماً. لو كان الرئيس المخلوع يتابع بالفعل الفضائيات المصرية حالياً، لظنّ أنّه في إجازة طويلة من السلطة، لأنّه لا شيء تغيّر. ما حصل أشبه بهدنة مؤقتة إلى أن نجحت خطة نشر «كره الثورة» بين الناس. خطة ساعد على نجاحها الإخوان المسلمون طبعاً، وتجرّعوا كأسها بعد عزل محمد مرسي في 3 تموز (يوليو) الماضي.
لكن لماذا فرّط الإعلام المصري بالحرية التي منحته إياها الثورة، من دون فتح الملفات والقضايا التي تهم الشارع، مكتفياً بالدفاع عن نظام ظنّ الثوار أنّه سقط إلى الأبد؟ الإجابة تكمن في تحديد مَن يملك الفضاء المصري، خصوصاً أنّ عدد القنوات المصرية التي نعرف مالكيها قليل جداً، إلى جانب قنوات أخرى يدرك العاملون في السوق أنّ من يتحدّث باسمها ليس مالكها الحقيقي. لعلّ الدرس الذي نتعلّمه من كل هذا أنّه عندما تثور وتطالب بتحرير الإعلام، لا تكتفي برصد الإعلاميين المعادين للثورة، بل ارصد أيضاً من ينفق على القنوات التي يطلّون من خلالها، ولا تنخدع مجدداً بشعارات مثل «الشعب يريد تحرير العقول».


يمكنكم متابعة محمد عبدالرحمن عبر تويتر | @MhmdAbdelRahman




تقدُّم في الكمّ فقط

عندما عقدت «غرفة صناعة الإعلام المرئي والمسموع» في مصر مؤتمراً في 27 يناير الماضي لكشف ملابسات الحملة المعارضة لأداء شركة ipsos، ظهرت على المنصة 10 قنوات فقط. قنوات تمثل الإعلام المصري الخاص، وتقدّم مضموناً منوّعاً، أي غير متخصص في الدراما والسينما. وتضم هذه المجموعة ثلاث قنوات فقط ظهرت بعد «ثورة يناير»، هي «سي. بي. سي.»، و«النهار»، و«التحرير». هذه ملاحظة تؤكد أنّ الاعلام المصري لم يتقدّم سوى على مستوى الكم، إذ يتشابه مضمون هذه القنوات، ويقتصر الاختلاف على التفاصيل التي لا تعتمد على ابتكار مهني، بل على تمويل يسمح بوجود المراسلين والكاميرات في أكثر من مكان. إمكانات لم تحمل الإعلام المصري بعد إلى سد فراغ القنوات الإخبارية العربية. الإعلام المصري عاجز حتى الآن عن تقديم وجوه جديدة ومهنية، كما تغيب عنه منتجات إعلامية رفيعة المستوى مثل الأفلام الوثائقية والحوارات الحصرية.