على مدار ثلاثة عقود، امتدت من أوائل الأربعينيات إلى أواخر الستينيات، كان للفكر الوجودي موقعه البارز ضمن تشكيلة العقائد الرائجة بين المثقفين العرب. لكن إذا كان هذا الفكر قد ارتبط بعدد وافر من الفلاسفة الغربيين، مثل سورين كيركغور، وفريدريش نيتشه، وكارل ياسبرز، ومارتن هايدغر، في حال أردنا أن نُعدد قليلاً من كثير، فإن الفيلسوف الوجودي الذي امتلك النفوذ الأكبر داخل الدوائر الثقافية العربية هو جان-بول سارتر. في أحدث كتبه «لا مخرج: الوجودية العربية وجان بول سارتر وتفكيك الاستعمار» (منشورات جامعة شيكاغو ـــ 2018)، يبحث المؤرخ يوئاف دي - كابوا تفاصيل هذا النفوذ ويتتبع ارتحال الفكر السارتري من باريس إلى بيروت ودمشق والقاهرة وبالطبع بغداد، التي عُرفت بعاصمة الوجودية العربية.
صحيح أنّ الإنتاج الفلسفي العربي حول الوجودية يمكن أن يعود إلى عام 1946، عندما ناقش المصري عبد الرحمن بدوي أطروحته لنيل درجة الدكتوراه حول الزمن الوجودي، لكن الوجودية السارترية، بما هي موقف فلسفي وأدبي وسياسي، لم تنتشر وتذيع إلا على يد اللبناني سهيل إدريس ومجلته «الآداب». وصحيح أيضاً أن الكتاب يُستهَلّ بالحديث عن أطروحة بدوي والصدى الذي أحدثته في الأوساط الثقافية المصرية، والذي تلخّصه عبارة طه حسين، «اليوم نشهد ميلاد الفلسفة العربية الحديثة»، ويُختتَم بسقوط بدوي جراء سكتة دماغية في أحد شوارع باريس، «حيث لا أحد يفتقده. حيث لا أهل ولا أقارب»، في حادث مروّع له رمزيته وقع في شتاء 2002، لكن يظلّ إدريس، عبر إنتاجه الصحافي والنقدي والروائي والترجمي، داعية الفكر الوجودي الأبرز في العالم العربي عند دي- كابوا. إن إدريس هو الذي استكتب منذ الخمسينيات المثقفين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والمصريين من ذوي العلاقة بالفكر الوجودي في «الآداب»، وطرح عبرها أسئلة الالتزام والاغتراب والقلق والآخر والانخراط، وهو الذي ترجم، رُفقة زوجته عايدة مطرجي، نصوصاً عديدة لسارتر، فضلاً عن روايته «الحي اللاتيني» التي يظهر تأثرها الواضح بعمل سارتر الشهير، «الغثيان».
وبالطبع، يأتي الكاتب على ذكر أسماء الكثير من الكتّاب العرب الذين مرّوا بطور وجودي ضمن مراحل تطورهم الفكري، بمن في ذلك أنور المعداوي، وأنيس منصور، وفايز صايغ، وهشام شرابي، وجورج طرابيشي، ومطاع صفدي، وعبد الوهاب البياتي، وعلى الأخص علي السمان ولطفي الخولي اللذين كانا على صداقة بسارتر ولعبا دوراً مهماً في علاقته السياسية بالمنطقة عموماً، وبمصر على وجه التحديد. وإذا كان إدريس هو الذي عقد جسراً بين سارتر والمنطقة ثقافياً وأدبياً، فيمكن القول إن السمان والخولي هما اللذان قاما بعملية التجسير السياسي.
لا يعود اهتمام العرب بفيلسوف «الوجود والعدم» إلى أهميته النظرية والأدبية فحسب، وإنما السياسية أيضاً. وقد مثّل سارتر «أول مثقف عالمي» لأنه تحديداً كان معلقاً سياسياً على مستوى كوني؛ فزار الاتحاد السوفياتي في الخمسينيات وكتب عن ذلك، وألّف كتاباً عن كوبا، وندّد بالحرب على فيتنام، ودعم الثورة الجزائرية وحركات التحرر في الكونغو وأنغولا، وخط مقدمة «انفعالية»، على حد تعبير دي-كابوا، أثارت جدلاً واسعاً لكتاب فرانز فانون «معذبو الأرض»، وقام بزيارته الشهيرة إلى مصر وغزة والأراضي الفلسطينية المحتلة قبيل حرب حزيران (يونيو) 1967، وهي الزيارة التي تصاحبنا على مدار الكتاب، في الواجهة أحياناً وفي الخلفية أحياناً أخرى.


على عكس مكسيم رودنسون وجاك بيرك وجورج فريدمان، وهؤلاء ثلاثة مثقفين فرنسيين اشتُهروا بمواقفهم الداعمة للقضية العربية في الستينيات، تبنى سارتر موقف اللاموقف أو على حد تعبيره «الحياد إلى حد الغياب» ـــ وهو نهج سيتواصل مع عدد كبير من المثقفين الفرنسيين، من بينهم بيير بورديوـــ لكن بما أنه مثقف عالمي ملتزم، ينبغي أن يُعبر عن موقف في نهاية المطاف، وبما أنه ثمة إلحاح عربي وإسرائيلي عليه للتعبير عن رأي في الصراع، عقد سارتر العزم على زيارة استقصائية للمنطقة، صُحبة رفيقة عمره سيمون دو بوفوار ورفيقهما كلود لانزمان، محرر دورية «الأزمنة الحديثة». وقد عوّل العرب على مواقف سارتر المعادية للعنصرية والاستعمار، فيما عول الإسرائيليون على مواقفه المعادية للاسامية وفهمه للمسألة اليهودية.
في 25 شباط (فبراير) 1967، وصل الثلاثة إلى محطتهم الأولى، القاهرة. وهناك، التقوا بالرئيس جمال عبد الناصر وعشرات المثقفين والطلاب والعمال والفلاحين وزاروا أماكن عدة، سياحية وغير سياحية. كان المصريون في انتظار مباركة سارتر لإصلاحاتهم الاجتماعية، وأرادوا، بمن في ذلك رئيسهم، لو يخطّ كتاباً عن بلدهم كما فعل مع كوبا. لكن، أين موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي؟ بالنسبة إلى المصريين، كما يقول دي-كابوا، «كانت تلك لحظة مصرية، لحظة احتفال بثورتهم»، حيث أرادوا تسويق منجزاتهم الجديدة في البنية التحتية والصناعة والزراعة والعسكرية للمثقف الباريسي. وباستثناء اللقاء الذي استمر لثلاث ساعات مع عبد الناصر، بالكاد حضر موضوع فلسطين في أي جلسة أخرى.
ثم كان أن توجهوا إلى غزة، وهناك أخذت الرحلة منحى آخر، غير احتفالي بالمرة. فُجِع سارتر بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وعبّرت بوفوار عن سخطها على الحاكم المصري لغزة، الذي كان يعيش متنعّماً في بيته المنيف ولا ينقصه شيء ويقوم بإعداد الولائم لضيوفه، فيما يعيش سكان غزة في فقر مدقع وإذلال رهيب. لكن بالرغم من تعاطف بوفوار الذي بدا خلال الزيارة، وكما يشير دي-كابوا، «فإن ذكرياتها حول اللقاء كانت سلبية للغاية، وعلى نحو يدعو إلى الدهشة، انتهى بها الأمر إلى إلقاء اللوم على اللاجئين في ما يتعلق بأوضاعهم». ومن جانبه، كان لانزمان، وهو يهودي فرنسي لديه موقف صهيوني معلن ومسبق على الزيارة، منزعجاً من تعاطف سارتر وتصريحه من داخل قطاع غزة عن حق العودة، وأيضاً غاضباً من هتافات الفلسطينيين التي رأى فيها كراهية لليهود.
في هذا السياق، يقوم دي-كابوا بعمل توثيقي مهم حين يُدرِج العديد من اللحظات التي عبّر فيها لانزمان عن سخطه من أي إشارة تعاطف مع الفلسطينيين صدرت عن سارتر، وهو السخط الذي قاد لانزمان في نهاية المطاف إلى التوقف عن الاستمرار في الرحلة والعودة إلى فرنسا. وإن كان ذلك لم يمنع دي-كابوا من إبداء إعجابه بصهيونية لانزمان: «في مذكراته، يترك لنا لانزمان رواية جميلة وصادقة عن اكتشافه البطيء، لكن القوي، للصهيونية».
في الأراضي المحتلة، المحطة الأخيرة، ستقوم بوفوار بلعب دور لانزمان، حاثّةً سارتر على التزام «الحياد» وعدم التعبير عن أي انحياز للفلسطينيين. ومن جانبه، سيلتقي سارتر بالأعضاء العرب في الحزب الشيوعي، ويلغي عدداً من الاجتماعات مع مسؤولين إسرائيليين سابقين وحاليين، بينهم ديفيد بن غوريون. لكن، على الأرجح، يعود ذلك إلى ضيق وقته وعدم وجود مساحة في جدوله. فهو، في النهاية، التقى بعدد آخر من المسؤولين الإسرائيليين، بينهم الجنرال السابق والوزير آنذاك يغال ألون. وكما يقول دي-كابوا: «بالرغم من أنه كان بارداً ومتحفظاً في البداية، فقد ظهر سارتر في شكل أكثر تعاطفاً وانفتاحاً وانخراطاً عند زيارته لكيبوتس [ألون] والتقائه ما يسمى بالفلاحين - المثقفين. وقد مالا، هو وبوفوار، إلى إضفاء طابع رومانسي على حياة الكيبوتس»، غير آبهين بأن الكيبوتس هو أهم مؤسسة عنصرية في إسرائيل تقتصر العضوية فيه على اليهود الأشكناز. وسارتر الذي أقر بحقّ العودة أمام الفلسطينيين، أقر أيضاً بحقّ الدولة العبرية في الوجود أمام الإسرائيليين. بالتأكيد، لم يُعجِب ذلك لا العرب ولا الإسرائيليين، لكن الأمر لا يعود إلى «جهل» أي من الطرفين، كما يرى المؤلف حين يقول: «لقد عزز هذا الجهل المتبادل مواقف كلا الطرفين ودفعهما إلى زيادة الضغط على سارتر». على العكس، كلاهما كان على معرفة واضحة بما يريد، فيما لم يكن سارتر كذلك. فهو، أولاً، رغب في الاتساق مع تاريخه السياسي في تأييد حرية الشعوب المحتلة، وثانياً، الحفاظ على مكانته بين المثقفين الباريسيين اليهود الداعمين لإسرائيل، وثالثاً، عدم إحباط المثقفين العرب الذين جعلوا منه بطلاً نظرياً في عالمهم واستخدموا مقولاته في توصيف الاستعمار والاستيطان وطبقوها على الحالة في فلسطين. لكن كان من المستحيل أخذ موقف متّسق يراعي هذه الاعتبارات بشكل متساو.
في حيرة من أمره، عاد المثقف إلى بلدته. ثم كانت إرهاصات حرب حزيران (يونيو) 1967. «هل سنكون مضطرين للهتاف «يحيا جونسون» لأن أميركا هي القوة الوحيدة التي باستطاعتها حماية إسرائيل؟ أنا على استعداد لفعل ذلك!» قال لانزمان. لكنه لم يكن وحده في ذلك؛ الغالبية العظمى من اليسار الفرنسي اتخذت الموقف نفسه. لكن ماذا عن سارتر؟ في 30 أيار (مايو)، نشرت «لو موند» بياناً جاء فيه: «[في هذه الحرب] إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي سيكون وجودها نفسه في موضع تساؤل، ولنأخذ تصريحات التهديد اليومية من جانب القادة العرب في الاعتبار»، بالإضافة إلى دعوة البيان إلى مراعاة أمن وسيادة الدولة العبرية. وقد وقّع عليه 68 من الكتّاب والفنانين والجامعيين الفرنسيين، بمن في ذلك سارتر. وعلى خلفية هذا البيان، أبرق إليه سهيل إدريس قائلاً: «إن موقفك الداعم لبلد اغتصب أرضاً وطرد شعبها يخون دعمك السابق للنضال في الجزائر وكوبا وإفريقيا... المثقفون العرب، وأنت لديك بينهم أصدقاء كثر، في حزن من جراء استسلامك للدعاية الصهيونية».
هكذا، انتهى سارتر من بطل في عيون العرب إلى خائن. وكما يقول دي-كابوا، لم تكن هذه مجرد خيانة شخص واحد، «ولكن أيضاً شلته الثقافية ومدينة باريس واليسار الفرنسي وفي لحظات حالكة بشكل خاص، أوروبا بأكملها».
بالرغم من المكانة المركزية التي تحتلها زيارة سارتر، فإن العمل لا يقتصر عليها. من بين ما يتناوله دي-كابوا بالتحليل الفروقات بين الأجيال المختلفة من المثقفين العرب، في تعاطف واضح مع جيل الستينيات، ومحاولة هذا الجيل، لا سيما الوجوديين منه، تقديم طرح تقدمي يربط قضية الاستعمار في فلسطين بقضايا العالم الثالث ومسألة الجنوب في العالم، بوصف العرب أيضاً «آخَر» الاستعمار والإمبريالية. لكنه يشير إلى عدم إثارة أسئلة من قبيل «ما تداعيات حقيقة أن الأساسات الأنطولوجية للآخَر ما بعد الاستعماري قد بدأت مع الهولوكوست وكانت لذلك وللأبد مضمنة في الرضّة (التروما) الخاصة بالذات اليهودية وعلاقتها الديالكتيكية بالأوروبيين؟ هل كانت الآخَرية عالمية، أو بالتحديد يهودية أو حتى شرطاً صهيونياً؟ هل هذه الارتباطات التاريخية تنطوي على أي معنى أخلاقي حين تطبق على الشرق الأوسط؟» من دون أن يشرح الأساسات النظرية التي ينطلق منها إلى أسئلته هذه، والتي تصدر عن منطق صهيوني واضح، لا سيما في خلطها بين ما هو يهودي وما هو صهيوني، ودون أن يبيّن للقارئ ما يطرحه على أنه معلومات بديهية وحقائق، مثل حديثه عن كون «الأساسات الأنطولوجية للآخَر ما بعد الاستعماري قد بدأت مع الهولوكوست».
كتب سهيل إدريس لسارتر: موقفك الداعم لبلد اغتصب أرضاً وطرد شعبها يخون دعمك السابق للنضال في الجزائر وكوبا وإفريقيا


كذلك، بالرغم من تعاطفه مع جيل الستينيات، يلوم دي-كابوا على بعضهم عقد تماثلات بين الإبادة التي تعرض لها اليهود على يد النازيين والعنف الصهيوني الذي يتعرض له الفلسطينيون، وإقامتهم تشابهات بين النازية والصهيونية. يقول: «لقد عقد [لطفي] الخولي تماثلاً خاطئاً بين العنف العنصري للنازيين وذلك الخاص بالصهاينة. ودون أن يرى على الإطلاق أي اختلاف فلسفي أو نوعي بين الاثنين، كتب أن «جرائم الصهيونية تُعدّ امتداداً لجرائم النازية». هنا، رغم طرحه عدة نقاط في موضعها، يتغافل دي-كابوا عن أمرين مهمين: أولاً، كيف يقوم الصهاينة باستخدام الهولوكوست لتبرير ما يجري بحق الشعب الفلسطيني وكيف أن ردود المثقفين العرب في مجملها تأتي في هذا السياق، بوصفها رد فعل على سردية صهيونية تتوسل فجيعة جرت بحق شعب لقمع شعب آخر؛ ثانياً، نظرة الفلسطينيين والعرب إلى التاريخ اليهودي بشكل عام (وهنا تنبغي الإشارة إلى الفصل المميز، «الفلسطينيون والتاريخ اليهودي»، في كتاب جوزيف مسعد «ديمومة المسألة الفلسطينية» ـ 2006).
في كتابه هذا، يقدم لنا دي-كابوا عرضاً شيقاً لفصلٍ مهم من الحياة الثقافية العربية في علاقتها بالفكر الأوروبي، وبأسلوب رشيق وقصصي يروي حكاية مثقف العالم الثالث وإحباطه من ردود فعل نظيره الأوروبي. وإذا كانت المسافة الزمنية بيننا وبين الأحداث والقضايا التي يتعاطى معها العمل واسعة الآن، فإن ذلك لا ينفي استمرار المثقف الأوروبي، وخصوصاً الفرنسي، في اتخاذ مواقف تثير إحباط العرب حتى يومنا هذا، لا سيما حين يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.

* كاتب ومترجم من مصر



ولد يوئاف دي-كابوا جنوبي القدس لوالد يهودي من أصول إيطالية وأم يهودية من أصول يمنية. حالياً، يعيش خارج الأراضي المحتلة، ويعمل أستاذاً مشاركاً للتاريخ في «جامعة تكساس» في أوستن. وقد نُشِر له عام 2009 كتاب «حُرّاس الماضي العربي: المؤرخون وكتابة التاريخ في مصر القرن العشرين»، عن دار جامعة كاليفورنيا. بالإضافة إلى إدانته الاحتلال الإسرائيلي في أكثر من موضع، يقول في مستهل «لا مخرج» عن بداية تفتح وعيه على معاناة الفلسطينيين: «إن مصير الفلسطينيين لم يكن أبداً محض فكرة مجرّدة [بالنسبة إلي] بل شيئاً مادياً وحاضراً تماماً: جدار مكسور وشجرة تين وينبوع ومنزل حجري».