ما هو الحقيقي؟ وما هو الافتراضي؟ هل هناك حدود فعلية بين العالمين غير أوهامنا عن الاثنين؟ في «هي»، يأخذنا سبايك جونز إلى عالم لا يقل غرابة عن فيلمه «أن تكون جون مالكوفيتش» (1999) حيث يجد أبطال العمل ممراً سرياً إلى رأس الممثل جون مالكوفيتش أو «حيث تكون الأشياء البرية» (2009) المقتبس عن رواية موريس سنداك الشهيرة للأطفال (1963)، باستثناء أنّ «هي» يجسد الرؤية المتكاملة للمخرج الأميركي الذي كتب سيناريو الفيلم الذي يشهد على براعته في التأليف كما في الإخراج.
يروي «هي» قصة رجل يغرم بامرأة تعيش داخل حاسوبه. رومانسية من هذا العصر تشبه كل علاقات الحب الغريبة التي قد تنشأ على شبكات التواصل الافتراضي، غير أنّ الفارق الوحيد أنّ هذه المرأة التي تدعى سامنتا تعيش فعلياً داخل الحاسوب، فهي ليست سوى نظام تشغيل. برنامج ذو قدرة على تطوير وعيه الذاتي كما تسوق له الشركة. يأخذنا جونز إلى مستقبل لا يبدو ببعيد، بل هو أقرب إلى الصورة التي نستطيع تخيلها عن عالمنا في السنوات القادمة تبعاً للمساحة التي بات يشغلها التواصل الافتراضي في حياتنا اليوم. عالم منظم، جميل لكنه صامت حيث كل شخص متصل بحاسوبه طوال الوقت، يتحدث معه أو عبره إلى آخرين. لعل أكثر مشهد يعبر عن ذلك العالم حين يركب بطل الفيلم ثيودور (جواكين فينيكس) المترو، ونراه كغيره يتحدث عبر سماعة الأذن إلى حاسوبه. مشهد يعكس التناقض بين فعالية وحرية التواصل التي يؤمنها الفضاء الافتراضي والصورة المباشرة التي تنفي وجود أي نوع من التواصل الملموس أو الحقيقي، فلا أحد يتحدث مع الآخر في المترو. الكل يتحدث مع نفسه. في هذا الإطار، لا تبدو الفكرة التي يطرحها جونز عبر علاقة الحب المتخيلة بين الافتراضي والحقيقي غير واقعية. إذا كان الشخص يقضي وقته برفقة حاسوبه، فلمَ لا يغرم به فعلاً؟ ثيودور يعمل كاتباً في مؤسسة حيث يكتب رسائل حب رائعة لآخرين حسب الطلب بينما يعود مساء وحيداً إلى منزله بعد انفصاله عن زوجته، تلاحقه ذكريات علاقتهما، لكن كل ذلك يتغير حين يشتري نظام تشغيل جديداً لحاسوبه ويطالعه صوت سامنتا (صوت سكارليت جوهانسن) التي تعيش داخل الحاسوب. الخاصية الاستثنائية لسامنتا أو لهذا البرنامج المستحدث أنّه يملك القدرة على تطوير نفسه وتكوين وعي خاص به. من خلال تفاعلها مع ثيودور، تستكشف سامنتا تدريجاً العالم البشري الغريب وتختبر حقل المشاعر الإنسانية المعقدة، من الحزن إلى الرغبة والغضب والغيرة والخيانة. من الناحية الأخرى، يستكشف ثيودور عالمه من خلال عيني سامنتا التي تنقل إليه شغفها بكل ما تراه كأنها مولود جديد. لكن معضلة التواصل الجسدي المستحيل تؤرق سامنتا أكثر من ثيودور الذي يبدو مكتفياً بالعلاقة كما هي، إذ تتوق سامنتا ليكون لها جسدها الخاص. يجد ثيودور في سامنتا الحبيبة المثالية، فهي موجودة دوماً لتسمعه وتهتم به، وهو محور عالمها. في الوقت عينه، تنظم له حياته وحاسوبه، والأهم أنّها لا تشكو ولا تتذمر، فهي لا تتعب أبداً. مع الوقت، تتطور علاقتهما فيعرّفها ثيودور إلى أصدقائه، ويخرجان مع ثنائي آخر في مشهد سوريالي لا يخلو من حس الطرافة الذكي والمستتر. يجلس الأربعة على العشب يتحادثون، هو وحبيبته سامنتا المتمثلة في الجهاز الصغير الذي يخرج منه صوتها، وصديقه وحبيبته من جهة أخرى. لكن هل هو فعلاً اللامعقول الذي يصوّره لنا جونز أم هو واقعنا الذي لا يقل غرابة عن هذا المشهد إذا ما نظرنا إليه بتجرد؟ نحن نتواصل يومياً مع أشخاص افتراضيين يعيشون داخل التليفون أو الحاسوب ونصطحبهم معنا عبر هذا الجهاز في مشاويرنا وسهراتنا، وبعضهم لم نره يوماً خارج هذا الجهاز. وإذا كان ثيودور قد وجد في هذا الحب الافتراضي العلاقة المثالية الثابتة والمريحة البعيدة عن مشاكل العلاقات الحقيقية، فإن سعادته لن تدوم لأنّ سامنتا ــ من خلال علاقتها معه ــ طورت أزماتها النفسية وتساؤلاتها الوجودية الخاصة. لذا، تسعى إلى أن تستقل عنه وتبني عالمها الخاص من خلال البرامج الأخرى مثل الذين تتعرف إليهم ويصبحون أصدقاءها، أو غيره من البشر الذين تبدأ بالتواصل معهم. يغرق ثيودور تدريجاً في الشك والغيرة إلى أن تعترف له سامنتا في أحد المشاهد الرائعة حيث يمزج جونز ببراعة بين السخرية والدراما، بأنّها تتحدث مع نحو 6000 شخص غيره في اللحظة نفسها، وأنّها تحب 600 شخص آخر أيضاً، لكنّها تؤكد له أنّ ذلك لا ينتقص من حبها له، فهي ليست مثله وقدرتها على الحب والتواصل غير محدودة. تهجر سامنتا ثيودور لتحلق في الفضاء الافتراضي اللامتناهي الذي يصوّره لنا جونز أشبه بالحياة الأبدية. في النهاية، يجعلنا المخرج نتساءل أيضاً: أيٌّ من الاثنين هو الحقيقي أم الافتراضي؟ بالآلية التي يسيّر بها حياته ورفضه للتغيير، يبدو ثيودور مبرمجاً أكثر من سامنتا التي تتغير كل لحظة ودقيقة. رؤية تتجسد منذ المشهد الأول للفيلم عبر لقطة قريبة لوجه جواكين فينيكس ـ الرائع بأدائه ـ وهو يقرأ بميكانيكية رسالة حب افتراضية. «هي» قد يكون أهم محطة في مسيرة جونز، وبالتأكيد أحد أبرز الأفلام التي صدرت هذه السنة والمرشحة للأوسكار. لكن بعيداً عن السينما، هذا الفيلم يقدم قراءة نقدية مهمة للإنسان في الأزمنة الحديثة وعلاقتنا الملتبسة مع العالم الافتراضي.



Her: «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «فوكس» (01/285582)، «سينما سيتي» (أسواق بيروت ـ 01/995195)