امتدّت يد الدراسات الأكاديمية الباردة والمعقمة إلى الكتابات النسويّة، فدجّنتها. أبعدتها إلى الأبراج العاجية والدوريّات المتخصصة، بينما حوّلتها وسائل الإعلام الليبرالي إلى جزء من مسائل الهويات المفتعلة التي تستهدف صرف أنظار الطبقات العاملة عن استغلال ممنهج تتعرض له من قبل النخب الرأسماليّة المعولمة وتمويه الحرب الطبقيّة بصراعات ثقافيّة ودينية وجندريّة وجنسانيّة. وحدها سيلفيا فيدريتشيه ــــ مع أخريات قليلات ـــ ما زالت صوتاً ثورياً نسوياً عصياً على التّدجين. صوت يصدح عالياً في وجه العنف والعنف البطيء الموجّه ضد النساء. تتولى الباحثة والمناضلة الإيطالية الأميركية بشغف مهمّة إعادة كتابة تاريخهن المغيّب على هامش السرديات الرسمية الباهتة. تقود بشجاعة جهود تفكيك استراتيجيات الهجمة الليبرالية المعاصرة على النساء ومجتمعاتهن.سيلفيا فيدريتشيه (1942) ليست مجرّد نسوية أخرى من ذلك النوع الذي يسميه ستيفان ستوري «ثوريّات ما دون الخصر». أولئك المزعجات اللواتي يصدّعن رؤوسنا بصرخات التحرر الجنسي والدعوات لمساواة الأجور مع إهمال متعمد لحقيقة المنظومة الرأسمالية الكليّة المهيمنة على حياة وعقول الرجال والنساء معاً، وتفرض على كلّ منهم قيوداً اجتماعية وسلوكية ـــ متفاوتة ربّما ـ لكّنها تخدم في مجموعها ديمومة حكم النخبة واستمرارية تدفّق الأرباح. فيدريتشيه مفكرة ثوريّة من الطراز الغرامشي ـــ وهي إيطاليّة الأصل كما غرامشي ــــ الذي أخذ من الماركسيّة ولم يقف عندها. بل استند إليها لتقديم أطروحته التفصيلية الخاصة حول تصوّر أدقّ عن ديناميكيات الصراع الطبقي في المجتمعات عبر فضاء الثقافة. أنطونيو غرامشي فكّك منهجيّات سيطرة النخبة من خلال ثنائية الثقافة المهيمنة واحتكار العنف، وفيدريتشيه فكّكت منهجيات سيطرة النخبة ذاتها من خلال فنون قمع النساء وإخضاع سلوكهن وأجسادهن وقدرتهن على إعادة إنتاج الحياة لمتطلبات تكريس سلطة الرأسمال المعولم.
لعلّ جانباً مهماً آخر يجمع بين هذين الإيطاليين: رغم أنها أكاديميّة مُجِلَّةٌ في علم الاجتماع وأستاذة شرف مدى الحياة في إحدى الجامعات الأميركيّة، إلا أنّ فيدريتشيه (77 عاماً) كما غرامشي، بقيت دائماً تقرن المعرفة الرفيعة بالممارسة الثورية على الأرض. تقود التجمعات النسوية، وتطلق الحملات في الدفاع عنهن، وتلقي المحاضرات العامة لتنوير النساء، وتنشر المقالات، وتشارك في الاحتجاجات. تصرّفت دائماً كما يليق بمواطنة عالميّة، فأيّدت نضالات نساء العالم الثالث واستمعت لرائداته، وكتبت عن السياقات والأطر التي يوظّفها الغرب الرأسمالي ضد مجتمعات الدول الفقيرة تحت عناوين «مبادرات التنمية البشرية» ووصفات النمو الاقتصادي، وانعكاسات كل ذلك على طرائق عيش النساء. وقد جمعت مقالاتها في كتاب بعنوان «الثورة عند نقطة الصفر» (2012) بعدما قرأت رواية نوال السعداوي «امرأة عند نقطة الصفر» المستوحاة من أحداث حقيقيّة حول شخصيّة «فردوس» التي عانت ـ كما امرأة مصريّة ـ من كافة أشكال القهر الذكوري جسدياً ونفسياً، فحولتها إلى ركام إنسانة تتخبط في حياتها بين شخصيات مشوّهة ومريضة ومزدوجة المعايير في سلوكها وعلاقاتها الإنسانية. كتابها ذاك دليل لا بدّ منه لكل امرأة ـــ ورجل ــ ينوون عدم الرضوخ عند تلك النقطة الخفيضة من الوجود الإنساني وإطلاق مواجهة ثوريّة تحديداً.
قراءة فيدريتشيه رحلة جبليّة صعبة لجمهور اعتاد على بنية العالم كما صنعته الرأسماليّة الحديثة خلال الأعوام الـ 400 الأخيرة ولم يعد بإمكانه تصوّر أشكال سابقة أو بديلة للحياة أو طرائق العيش أو حتى الأدوار الجندرية والسلوكيّات العامة. لكنها وهي تطرح أفكارها الصادمة لكثيرين، تحتفظ برباطة جأش عجيبة، وتبني تنظيراتها على أسس موثقة لا يسهل مجادلتها، وتنجح دائماً بأسلوبها المباشر والسهل الممتنع في مهمة الإقناع.
مرافعة فيدريتشيه التي امتدت لخمسين عاماً من البحث والنضال، تنطلق من تصوّر ماركسي الجذور حول نشأة الرأسماليّة، لكنها تضيف كثيراً من التفاصيل الدقيقة عن تحوّلات مجتمعيّة في أوروبا الغربيّة لم يتسنّ لكارل ماركس ورفيقه فريدريك إنجلز دراستها، لا سيّما تلك المتعلقة بحياة النساء خلال تلك التحولات، مستفيدةً في ذلك من توافر مواد أرشيفيّة ممتازة من البلدات والقُرى الأوروبيّة لم تتح للباحثين قبل السبعينيات. ولذا فإن سرديّة ماركس ـ إنجلز عن نشوء الرأسماليّة لا تكتمل حقيقة من دون النصوص الفيدريتشية.
وفق فيدريتشيه، فإن نشوء النظام الرأسمالي كان نوعاً من ثورة مضادة استباقية نفذتها النخبة لمواجهة ثورة فقراء النظام الإقطاعي التي بدأت معالمها في التبلور في الفترة 1550 - 1650 بعدما تدفقت على القارة كميّات هائلة من الذّهب والفضّة ـ مسروقة من سكان أميركا الأصليين ـ فتسبّبت في تضخم حاد في تكاليف الحياة اليوميّة لم يعد بعده الفقراء بقادرين على توفير الحد الأدنى من متطلبات العيش، فبدأوا بالتذمر والاعتداء على الأثرياء. الثورة المضادة الاستباقية التي وحدت صفوف الأرستقراطيين والأثرياء الجدد والكنيسة في جبهة واحدة، هدفت إلى تحييد غضب الفقراء المتصاعد والشروع في بناء منظومة اقتصاديّة جديدة تضمن تحقيق أعلى الأرباح عبر الاستغلال العميق للموارد بما فيها العنصر البشري عبيداً أو عمالاً شبه عبيد. لم يكن لتلك الأهداف أن تتحقق من دون إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية القديمة وصياغتها في أفق جديد متوافق مع متطلبات الاقتصاد الجديد. مهمة تمحورت حول خلق جيوش من العمّال المنضبطين واستخلاص أعلى مستويات الإنتاجية منهم. كانت النساء في تلك الأجواء الحلقة الأضعف، إذ لم يتمتعن بالقوة الجسدية الكافية للعمل مقارنة بالرجل. لذا، كان المطلوب من المرأة التزام بيتها وتقديم خدمات شاقة مجانية للرجل مقابل الإنفاق عليها، وتقديم جسدها له طقوسياً (في آخر الأسبوع غالباً) كنوع من تفريغ لشحنة القهر والذلّ التي يتلقاها خلال عمله ليعود نشيطاً لجولة جديدة من العمل. في المقابل، يتوقع منها إنجاب أكبر عدد من الأبناء لرفد السّوق بالعمالة الرخيصة وضمان تورط العمّال الآباء في عبودية مستديمة للنظام. فَرْضُ هذا النموذج الاجتماعي الجديد تضافرت عليه الأوضاع الاقتصادية الناشئة، حيث دُمّرت الوحدات الإقطاعية التي طالما وفرت نوعاً من شبكة أمان مجتمعي صغيرة للنساء لمصلحة الحيازات المسوّرة الكبرى، فأصبحن عملياً دون مورد رزق، والكنيسة التي بشّرت الرعايا بالتعفّف عن الجنس خارج مؤسسة الزواج وقبول سلطة الرجل المطلقة في البيت والاعتناء بتربية عمّال خاضعين جدد يتمتعون بصحّة جيدة، وأيضاً الدولة التي نفذّت إحكاماً جائرة قانونيّة وكنسيّة بينهم.
وتسجلّ فيدريتشيه أن ظاهرة حرق الساحرات التي انتشرت في معظم أنحاء أوروبا الغربيّة طوال قرنين تقريباً وراحت ضحيتها آلاف النساء في ميتات علنيّة بشعة في كل ساحة عامة، إنما كانت صيغة النخبة المتحالفة على قهر الناس لتخويف النساء ودفعهن مذعورات إلى الالتزام بقواعد اللعبة الاجتماعية الجديدة التي رافقت نشوء النظام الرأسمالي. وهي تستنتج من مراجعة آلاف الوثائق من تلك الفترة أن هؤلاء المسكينات كن نساء وفقيرات دائماً، كبيرات السن غالباً (أي غير منتجات اقتصادياً أو إنجابياً) فقدن مصدر رزقهن أو كن متهتكات جنسياً (يهددن استقرار منظومة العمل ومؤسسة الزواج الرسمي)، ويتجولن لاستعطاء الطعام من بيوت الميسورين. وكانت السلطات (مدنيّة ودينيّة معاً بالتضامن) توجه لهنّ تهماً ـ ملفقة بالطبع ـ باستدعاء الشيطان بسبب حقدهن الطبقي الظاهر على الآخرين، وحملهن بذور الثورة والغضب على النظام القائم. ثورة يمكن أن تنتشر خلال تجوالهن الدائم كفيروسات معدية. القتل العلني حينها كان استراتيجيّة لتعليم بقيّة النسوة ضرورة الخضوع، ولتبقى صُوَرُهُ عالقة كسيف مسلّط فوق رؤوسهن إن دفع بهنّ اليأس يوماً للتمرد.
ولعل من أمتع ما كتبته فيدريتشيه في هذا الإطار مديحها للثرثرة النسائيّة التي أُلبست في العصور الرأسماليّة صفة سلبيّة كمضيعة تامّة للوقت ونميمة وغيبة للآخرين. فهي تقول في مقالة شهيرة لها إنّ تاريخ الكلمة الإنكليزيّة المستخدمة لوصف الثرثرة (Gossip) يقدّم فهماً مذهلاً كيف أن الكلمة المشتقة من God و Sipp كانت تعني ـــ وفق عدد هائل من النصوص والمعاجم القديمة ــــ شيئاً من علاقة أمومة روحيّة تنشأ بين النساء الشابات عادة والقابلات أو نساء الجيران الأكبر سناً منهن أو الرفيقات اللواتي يساعدهن على إدارة أوجاعهن خلال الإنجاب ولاحقاً عبر مشاركتهن خبراتهن في العلاجات البديلة بالأعشاب، كما أسرار تجديد العشق وبث الشكوى من تعب القلوب. تقول فيدريتشيه هنا إن النساء اللّواتي كن يخرجن من بيوتهن ــ غالباً أثناء غياب الزوج في عمله ـــ ويلتقين في مشرب القرية وسط السوق (أو فرن الحيّ أو القرية في بلادنا) يثرثرن ربما لساعات بلا توقّف، قد وفرت لهنّ تلك الثرثرة شبكة دعم اجتماعي مهم عبر عصور طويلة تتناقل فيها الأجيال خبرات حياتية مهمة وقراءات للسلوكيات البشرية ـ لا سيما الرجال ـ وتحفظ ذاكرة الشعوب عن الأحداث والأشياء والأشخاص خارج السرديات الرسمية المجتزأة ذات الأجندات السياسيّة. بذلك، شكلت هؤلاء النسوة هوية المجتمع الحقيقية وشخصيته وحكمته المتوارثة. لكن تلك العلاقات المقتصرة على النساء حصراً، مثلّت نوعاً من خطر ماثل على النظام البطريركي لأنها قد تمد النساء بالوعي أو الدافع أو القوة لرفض الخضوع للمنظومة روحاً أو جسداً، وقد تكون غطاء لنواة ثورة قد تأتي في يوم ما، ولذا كان لا بدّ من قمعها ولو بالعنف. وهناك في المتاحف الأوروبيّة ــ والأميركيّة ــــ نماذج من أقنعة كانت تُلبس عنوة للنساء اللواتي يتهمن بالثرثرة من تلك الفترة تسبب ألماً فظيعاً عند محاولة التلفظ بكلمة، وهي كانت قيد الاستخدام حتى عام 1837. تقدّم فيدريتشيه نماذج من أهازيج وأعمال مسرحيّة ونصوص قانونيّة وأحكام كنسيّة وكتابات أدبيّة طورتها النخبة البورجوازيّة الجديدة في أوروبا تدين ثرثرة النساء، وتشيطن قويّات الشكيمة منهن، وتهزأ من الرجال الذين تتحكم بهم نساؤهم، وتجعل من لقاءاتهن للثرثرة عملاً شيطانياً فاسداً. من بين هذه الأعمال مسرحيّة اشتهرت عن زوجة لوط التي رفضت اللحاق بزوجها إن لم ينقذ معها رفيقاتها في الثرثرة، فتركها لتتحول إلى عمود من ملح في قاع بحر ميّت. وهكذا تحولت كلمة Gossip شيئاً فشيئاً إلى تلك الصورة السلبية التي نتداولها اليوم عن الثرثرة النسوية حتى بين المتعلمين.
تقدّم نماذج من أهازيج ومسرحيّات وأحكام كنسيّة وكتابات طورتها النخبة البورجوازيّة الجديدة في أوروبا تدين ثرثرة النساء


لا تحمل فيدريتشيه ودّاً كثيراً لنساء الطبقات الثرية ونساء السلالات الحاكمة. تعتبرهن أسوأ حالاً بما لا يقاس من نساء الطبقات الأخرى لناحية خضوعهن الذليل للمنظومة البطريركيّة التي تطلب منهن كزوجات الاحتفاظ بواجهة علنية مشرقة عن زواج تعيس غالباً، وإنجاب الأبناء لضمان ديمومة الثروة والنفوذ في العائلة، بينما تتسامح مع الرجال الذين يتخذون عشيقات كثيرات. ترتيب مثالي للذكور المهيمنين، ما دامت الزوجة الحسناء مطيعة وخاضعة، والعشيقة مُجَرَّمة وخفيّة فلا تجرؤ على الظهور لأنها مدانة قبل أن تتكلم، بينما تدفع الغيرة كليهما إلى التنافس دائماً على نيل رضى الرجل/ الملك.
ربما ينبغي التذكير بأن أعمال فيدريتشيه لا يمكن وصمها بتهمة المركزية الغربية، وهي التهمة التي أصبحت تُلقى جزافاً من قبل المثقفين العرب الكسالى لأن هذه السيدة العظيمة وإن حللت وقائع تاريخيّة في إطار غربي، فإنها ظلّت طوال الوقت تقارن بين تجارب النساء الموازية في المجتمعات الأخرى. وهي نشرت بالفعل كتاباً عن ظاهرة حرق الساحرات في إفريقيا الحديثة، وكثيراً ما تعاونت مع مفكرات ومناضلات من دول العالم الثالث لبناء فهم مشترك أعمق لظواهر عمومية في الاجتماع الإنساني.
نحن مدينون لسيلفيا فيدريتشيه. ليس فقط لأنها منحتنا عبر نضال استمر نصف قرن، فهماً أفضل عن المظالم التي يتسبب فيها النظام الرأسمالي تاريخياً وحاضراً للمجتمعات والنساء، بل لأنّها أيضاً أعطتنا نموذجاً آخر ممكناً للنسويّة التقدميّة في مواجهة «ثوريّات ما دون الخصر» والتعبير دائماً لستيفان ستوري.