القاهرة | في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كان فاروق الفيشاوي (1952 ــــ 2019) قد أعلن أثناء الندوة التي أقيمت في إطار تكريمه ضمن «مهرجان الإسكندرية الدولي لسينما البحر المتوسط»، أنه مصاب بالسرطان. حاول أن يخفّف من وقع الصدمة والحزن اللذين انتابا الحاضرين بالتقليل من شأن المرض. أعلن أنه ينوي مواجهته بشجاعة، والتعامل معه بصلابة، كما لو كان «صداعاً». ما أشاع روحاً من التفاؤل والأمل بين محبيه ومعارفه. لكن الحقيقة أن الفيشاوي كان يعلم أن النهاية وشيكة، وأن هذا النوع من السرطان الذي استولى على كبده وجسده قاتل لا يمكن للطب الحالي أو للروح المعنوية المرتفعة أن تتصدى لشراسته. أغلب الظن أنّ الفيشاوي كان ينعى نفسه، ويودع أصدقاءه وزملاء الفن الذي عشقه وأفنى فيه حياته. في الساعات الأولى من صباح أمس الخميس، رحل الفيشاوي بعد مسيرة فنية امتدت لحوالى أربعين عاماً قدّم خلالها ما يقرب من 150 فيلماً و70 مسلسلاً، وعدداً من المسرحيات والمسلسلات الإذاعية.
في السنوات الأخيرة، مالت أعماله أكثر نحو «الانتقائية» والظهور في أعمال المخرجين الشباب «المستقلين»

ولد الفيشاوي في محافظة المنوفية (شمال القاهرة) لأسرة ثرية. حصل على ليسانس في الآداب، ثم على بكالوريوس في الطب، ثم ترك كل هذا ليطارد حلمه باحتراف التمثيل. بدأ في الظهور في أفلام عدة منذ منتصف السبعينات، لعل أهمها دوره الصغير في فيلم «الباطنية» (إخراج حسام الدين مصطفى ـ 1980) من بطولة نادية الجندي، وهو واحد من أنجح أفلام السينما المصرية تجارياً. لكن الفرصة الكبيرة كانت مشاركته البطولة أمام عادل إمام في فيلم «المشبوه» (إخراج سمير سيف ـ 1981) في دور الغريم الرئيسي للبطل. في الفيلم المقتبس عن الفيلم الأميركي «مرة ذات لص» (إخراج رالف نيلسون وبطولة آلان ديلون وجاك بالانس ـ 1965)، يلعب عادل إمام دور لص «طيب» يستولي على مسدس ضابط شرطة، يلعب دوره الفيشاوي، ويسعى الضابط للقبض على اللص واستعادة مسدسه وكرامته، لكن في النهاية يتصالح الاثنان!
بدوره في «المشبوه»، دشن الفيشاوي صورته كأحد أهم نجوم سينما الثمانينات والتسعينات: وسامة جذابة مصحوبة برجولة قاسية يعززها شاربه الكثّ، الذي بات جزءاً من شخصيته لم يتخلّ عنه طوال حياته، قدرة على لعب الأدوار «الطيبة» و«الشريرة» بنفس الدرجة من الإجادة والنجاح. شارك الفيشاوي في عشرات الأفلام خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، بعضها أفلام فئة «ب» التي يطلق عليها تسمية «أفلام مقاولات»، ومعظمها أفلام تجارية أكشن أو كوميدية، وقليل منها أعمال فنية متميزة مع مخرجين جادين، مثل «الطوفان» (إخراج بشير الديك ـ 1985) و«مشوار عمر» (إخراج محمد خان ـ 1986)، و«ليه يا بنفسج» (إخراج رضوان الكاشف ـ 1993)، «الجاراج» (إخراج علاء كريم ـ 1995)، «التحويلة» (إخراج إبراهيم الموجي ـ 1996). في معظم هذه الأعمال، حتى التي انفرد ببطولتها، تعاني الشخصيات التي يلعبها الفيشاوي من «التباس» ما. طيبة ظاهرها شرير، أو شريرة ظاهرها طيب، مركبة وصعبة وموقف المشاهد منها غير محسوم تماماً. وغالباً، خاصة في الأعمال التي يؤدي فيها أدواراً ثانية، تكون هذه الشخصية «نائية»، «باردة»، مثل دوره في «حنفي الأبهة» (إخراج محمد عبد العزيز ـ 1990)، الذي يلعب فيه دور ضابط شرطة بينما عادل إمام دور لص، مثل دوريهما في «المشبوه». وبينما يتعاطف المشاهد مع بقية شخصيات الفيلم أو يكرهها، يظل موقفه من شخصية الفيشاوي «محايداً» بشكل غريب.
في الحقيقة، لم ينتبه مخرجون كثيرون إلى هذه السمة الفريدة في الفيشاوي. ربما يكون محمد خان في «مشوار عمر» هو الذي استخلص جوهر هذه الشخصية بوضوح، لأنّ حبكة الفيلم تقوم على رحلة شاب «عادي» لا هو طيب ولا شرير يلتقي خلالها بأنواع من المتناقضات.
لم يتوقف الفيشاوي خلال هذه السنوات المزدهرة من الثمانينات والتسعينات، التي قدم خلالها عشرات الأفلام، أمام أسئلة من نوع: ما هو الفن؟ وما هي نوعية الأفلام التي تليق بي؟ أو التي تثري مسيرتي الفنية؟ قبل العمل في كل الأفلام التي عرضت عليه تقريباً. بالتأكيد لم يكن لديه وقت للمشاركة في كل الأعمال التي تعرض عليه، بسبب انشغاله الدائم في أعمال متفاوتة القيمة. ومع أنّ موهبته كممثل لم تكن محل شك، إلا إنه أهدر هذه الموهبة في أعمال لم تضف له شيئاً، وربما تكون عطّلته عن أعمال أخرى أهم، أو عن تخصيص مزيد من الوقت للإتقان وتطوير مهاراته كممثل.
من مزايا شخصية الفيشاوي على الشاشة أنها كانت تتوافق مع معظم نجمات المرحلة: ليلى علوي، إلهام شاهين، يسرا، مديحة كامل، نبيلة عبيد، نجلاء فتحي، معالي زايد، صفية العمري، لكنه تألق بشكل خاص أمام نادية الجندي التي استعانت به في العديد من أفلامها مثل «جبروت امرأة»، «الإرهاب»، «شبكة الموت»، «المرأة التي هزت عرش مصر»، «48 ساعة في إسرائيل». علاقة تجمعها كيمياء من نوع غريب تحتاج إلى تأمل حيث نجد دائماً أنها خليط من الرغبة المتبادلة التي تتحول إلى صراع وكراهية، تعكس الطبيعة المركبة لشخصية الفيشاوي الفنية، «البرسونا» الخاصة به، التي يختلط فيها الطيبة بالشر، والجاذبية بالنفور، والضعف بالقسوة.
ربما يكون محمد خان في «مشوار عمر» هو الذي استخلص جوهر شخصية الفيشاوي بوضوح


في السنوات الأخيرة، مالت أعمال الفيشاوي أكثر نحو «الانتقائية» والظهور في أعمال المخرجين الشباب «المستقلين» مثل «ألوان السما السبعة» (إخراج سعد هنداوي ـ 2007)، «القط» (إخراج إبراهيم البطوط ـ 2015)، «يوم للستات» (إخراج كاملة أبو ذكرى ـ 2016).
ارتبط الفيشاوي بالممثلة سمية الألفي، التي صارت زوجته الوحيدة وأمّ ولديه أحمد وعمر قبل انفصالهما. وكان لسنوات بطلاً لبعض القصص «الفضائحية» مثل المخدرات ومكالمات الهاتف الفاحشة لعل أسوأها علاقة ابنه أحمد بفتاة اسمها هند الحناوي، وتدخله هو وسمية الألفي في مجريات الدعوى القضائية التي رفعتها الحناوي للمطالبة باعتراف الفيشاوي الابن بنسب ابنته منها. في هذه الفترة، بداية الألفية الثالثة، كانت الأفكار المتطرفة التي غزت الفن المصري قد تسللت إلى آل الفيشاوي، ولم يتخلصوا منها إلا بعد سنوات من الواقعة. وبالطبع تركت تأثيراً سلبياً على صورة النجم وأسرته. مع ذلك، يعرف الذين عملوا مع الفيشاوي حجم موهبته وإخلاصه في العمل، وحبه ومساعدته لزملائه، ويعرف الذين اقتربوا منه كم كان شخصية خيرة ومتواضعة ومحبة للآخرين، وكم ساعد شباباً في مقتبل حياتهم وعمل بدون مقابل أو حتى دفع من جيبه للإنفاق على هذه الأعمال.
آخر أعمال الفيشاوي في السينما دوره في فيلم «ليلة هنا وسرور» (2018 ـ بطولة محمد عادل إمام وإخراج حسن المنباوي) حيث لعب شخصية رئيس عصابة يطارد البطل النصاب لاسترجاع المسروقات. دور شرير كوميدي يذكرنا بأعماله الأولى. كما شارك في فيلم بعنوان «قرفة بالزنجبيل» (إخراج عمر عبد العزيز) أمام يحيى الفخراني لم ينته بعد. وفي التلفزيون، ظهر الفيشاوي في أعمال عدة آخرها «عوالم خفية» أمام عادل إمام، و«لدينا أقوال أخرى» أمام يسرا، وقبلهما «الشارع اللي ورانا» الذي لعب فيه أحد أدواره «الشريرة الغرائبية» المفضلة.
لقد ظل يعمل حتى آخر نفس، محتفظاً بقلب الشاب الذي عشق الفن، فتخلى عن كل شيء من أجله، وكرس حياته له، ولا يجد معنى لليوم الذي لا يمثل فيه.
منذ أشهر، أثناء ندوة تكريمه في الاسكندرية، أبدى الفيشاوي شجاعة نادرة وهو يعلن عن مرضه الخطير. شجاعة نادرة في مجال الفن، أو غيره، في عالمنا العربي، لكن الذين اقتربوا من الفيشاوي ولو قليلاً، يعرفون جيداً أنه كان رجلاً يمكن أن تنقصه أشياء، لكن ليس من بينها الشجاعة!