إدمون صعب *«لا تستطيع أن تكون قنديلاً
إلا إذا حملت الليل على كفيك»
أدونيس
أنسي،
أيها الملاك الطاهر،
يا ملاك الحرية والبراءة.
أيها الرفيق الشريف في النضال من أجل العدالة والإنصاف والكرامة الإنسانية.
لقد سقطت صريع الخيانة،
قبل أن يفترسك الوحش الذي لم يرحم طهارتك وصدقك، ونبلك وسموّك.

قليلون يا أخي وصديقي، بل يا معلّمي، يعرفون مدى صدقك وعمق الجرح الذي أصابك جراء الخيبة التي أصبت بها من أعز الناس لديك.
قليلون يا أنسي، يعرفون سرّك، بل سر مرضك في «النهار» حيث كان سرطان المال بدأ يتفشّى في ذلك الكيان الحر الذي كنت واحداً من أركانه، وصانعي مجده.
لن يصدّق أحد في العالم الذي كنت جزءاً منه، أنك يمكن أن تفكر يوماً بمغادرته وأنت رئيس لتحرير أكبر صحيفة في لبنان، وينعم بأعلى راتب في العالم العربي يوفّر لك حياة كريمة ومرفهة، لكنك فعلتها، وقلت «لن» رافضاً التنكّر للأمانة، بعدما جاء من رهن استقلالية «النهار» وحريتها لحساب مال تفوح منه رائحة النفط. مال حاصرها حتى كاد أن يخنقها. ثم جاء من يرهن ما تبقى من هاتين الاستقلالية والحرية لحسابات لا علاقة لها بالدور الرسولي للصحافة من جماعات طالما شبّهناها بتجار الهيكل الذين جاء المسيح وطردهم منه.
أيها الفارس الشجاع الذي رفض الانحناء أمام سلطة المال، وآثر الانسحاب بصمت، الى صومعة الفرادة، ناسكاً متعبّداً للجمال والحرية.
قد لا يصدق أحد أن السرطان الذي تفشّى في جسم «النهار» كان من النوع القاتل لأمثالك. لذلك كنت تكثر من تناول الأدوية المهدئة بعد مراجعتك بعض المقالات التي كانت تفوح منها روائح غير مألوفة، فكنت تحيلها عليّ مع عبارات مثل: «هذا تقرير استخباراتي»، وهذه «فاتورة»، وهذه «فرشاة للجوخ» وهذا «تسديد حساب».
وازداد مرضك شدة عندما تواجهت مع من بدأ يتلاعب بعناوينك في مانشيت الصفحة الأولى، من وراء ظهرك، فقررت يومها المواجهة، دفاعاً عن عزتك وكرامتك وشرف المهنة الحرة التي تنسّكت لها.
يومها نصحت لك بالروية، وبألا تواجه ربّ عملك، ووليّ نعمتك، ووالدك الروحي، وألا تخيّره بينك وبين ابنه، وشبّهت وضعك آنذاك بوضع المربية التي تصرّ على الجلوس في المقعد الأمامي في السيارة، على أن يجلس الابن في المقعد الخلفي، بينما يصرّ والده على إجلاسه في المقعد الأمامي، لتجلس المربية في المقعد الخلفي.
وواصلت عنادك على أساس أن صاحب الصحيفة قد تنصّل من العقد الأدبي القائم بينه وبينك، فشعرت بأن ثمّة من استباح حقك في حريتك، وهي مقدسة بالنسبة إليك، وأصررت على إسقاط عبارة «مستقلة» من شعار الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس «النهار»، والذي كان: «النهار حرة، مستقلة». فعاندت في ضرورة إسقاط «مستقلة»، لأن الصحيفة لم تعد، في نظرك، مستقلة، الأمر الذي جعلك في حلّ من التزامك الوجداني حيالها وحيال صاحبها، ولم تنفع معك مبررات صاحبها بأنه إنما فعل ذلك من أجل المحافظة على استمرارها وعلى ديمومة العمل فيها.
وإني لأذكر أنك منتصف السنة 2003، قررت الامتناع عن مراجعة المقالات السياسية وأحلتها جميعها عليّ، شفقة منك على صحتك.
وتغطية لهذا التحول، وجّهت رسالة في 10 حزيران 2003 إلى رئيس مجلس الإدارة المدير العام تعلمه فيها بأنك فوّضت إليّ جميع القضايا الإدارية والمالية المتعلقة بالمحررين، على أن أشكل هيئة معاونين من المحررين تساعد في تحمل هذا العبء، «مما يُشعر المحررين بأن مطالبهم وحقوقهم مرعية دائماً على نحو مسؤول ومنصف». ولم يفدك ذلك كثيراً، إذ كانت حالك الصحية والنفسية تزداد تدهوراً مع طلوع كل «نهار»، إلى أن عزمت أخيراً على الرحيل بعد اتصال هاتفي بصاحب الصحيفة في حضوري، لم تبق فيه «الستر مغطّى»، وأسمعته كلاماً لا يصدق، وختمت بالقول على ما أذكر «لقد مرّضتني، وأنا الآن أتناول أربعة أنواع من الحبوب المهدئة، وأظنني سأتوجه إلى المستشفى بعد إنهاء هذه المكالمة». وبعد أيام قليلة، فتحت عليّ وقلت لي: «أنا هنا لأودّعك غير آسف، لأن كرامة الحرية أغلى عليّ من أي مال، وقد أعدت ما لقيصر لقيصر، ومشيت مع حريتي إلى باب الله. لقد فزت بحريتي، وهذا يكفيني». أيها الملاك الطاهر، لقد تحررت روحك وعادت إلى باريها في السماء التي كانت مقفلة في وجهك، لكنها فتحت لك إثر الزلزال المدمّر الذي تعرض له لبنان أواسط الخمسينات، فوجدت نفسك، وأنت الملحد آنذاك، في الكنيسة وجهاً لوجه مع زميلك مارك رياشي الذي سبقك إلى السماء. ومذ ذاك رحت تتعبّد للعذراء، وتقفل مكتبك يومياً في أوقات معينة ليلاً للصلاة. وزاد إيمانك بعدما تراءى لك أن السيدة العذراء قد أرسلت إليك من أنقذك من الموت رمياً بالرصاص في أحد أقبية زقاق البلاط ذات فجر من عام 1975، بعدما كنت خطفت مع زميليك فرنسوا عقل وإميل داغر. وقد أرسلت إليكم العذراء، بحسب ما تراءى لك، لكثرة ما صليت آنذاك وتضرّعت، أرسلت شيخاً يشبه الملاك إلى ذلك القبو، فتصدّى للمسلحين وأخرجكم إلى الضوء وقادكم محروسين إلى سيارتكم. فاطمئن يا رفيقي الحبيب، إنك ستلقى في السماء ترحيباً خصوصياً من زملاء لك سبقوك، وهم بانتظارك بعدما أعدّوا العدّة لإصدار جريدة هناك، ستكون حقاً «حرة ومستقلة»، لأن هاتين الصفتين لم تعودا موجودتين إلا في السماء، بعدما أفسدت الأرض كل شيء.
وستجد فوق: كامل مروّة وسليم اللوزي ورياض طه وغسان وجبران تويني، وسمير قصير، والياس شلالا (الماكيت والتصحيح) كلهم ينتظرون رئيس تحرير جريدة السماء. فنم قرير العين يا أنسي، لأن السماء هي التي ستنصفك، بعدما غدرت بك الأرض، وأنت الذي لم يحد عن درب القداسة.
* رئيس التحرير التنفيذي سابقاً
لجريدة «النهار»