من روسيا، هرب الجدّ ذات ليلة، فرست السفينة على ميناء في تشيلي. ملاحَقاً من القوزاق وتهديدهم لليهود في روسيا، لم يتسن له أن يدرّب لسانه على الإسبانية. تعلّم منها كلمة واحدة لا أكثر: «الأربعاء»، بغية أن يحدّد لزبائنه موعد الانتهاء من صناعة أحذيتهم. كان الجدّ صانع أحذية، يصمّم لكلّ فرد حذاء على مقاس قدمه. أما حفيده، فقد تعلّم أن يبني الأرواح من أوراق «التارو». أن يرمّمها ما لم يستطع أن يصنعها، منسلّاً من خلال تلك الرسومات والرموز إلى حاضر أشخاص يبعثون إليه بحيرتهم.«التارو ليس عن المستقبل، لأن المستقبل مجرّد خدعة». لا يدع أليخاندرو خودوروفسكي فرصة كي يذكّرنا بأن قراءته لأوراق «التارو» لا تندرج ضمن استخداماتها الشائعة لدى العرّافة، والكشف عن المستقبل والمصائر. يصرّ على أن هذه الأوراق هي عن الحاضر، وإن كانت رؤية الحاضر تستدعي كنس الماضي العائلي والسيكولوجي. على مدى خمسين عاماً، بقي المخرج والرسام والكاتب التشيلي (1929) يدرس «تارو» مارسيليا الذي أنجز عنه كتاباً كاملاً مع ماريان كوستا بعنوان «طريقة التارو» The Way of Tarot. التقى تلك الأوراق للمرّة الأولى في السابعة من عمره في بلدته الصغيرة توكوبيا البحرية. هناك مَن كان يبني منها بيتاً ثم يهدمه بنفخة أو بضربة من يده. هذا ربّما ما يفعله الخالق بنا، قال له الرجل. لاحقاً، اهتدى إلى تارو مارسيليا نزولاً عند نصيحة الشاعر الفرنسي أندريه بروتون، الذي أقنعه بأن هذه النسخة هي الأقرب إلى التارو الحقيقي حين جُمع وطُبع مجدّداً عام 1930.



قبل سنوات، نقل المخرج التسعيني الموعد إلى قناته على يوتيوب Jodorowsky Films، مقدّماً فيها، حتى الآن، قراءة شاملة تصل إلى 20 دقيقة أحياناً، رداً على أسئلة مشاهديه الشخصيّة ممن شاركوا في تمويل فيلمه «شعر لا ينتهي» (2015)، وفيلمه الأحدث «سايكوماجيك: فن للشفاء» الذي يطلق في باريس في أيلول (سبتمبر) المقبل حول تيّاره Psychomagic. تيّار جمالي نفسي يمكن اختصاره باستخدام الرموز لتغيير حياة شخص ما. تأويل فانتازي لكي تقوى القدمان على الحاضر. هو كعين أخرى للشفاء. دعوة إلى رؤية العملة الذهبية الضئيلة التي في قبضتنا بدلاً من اللهاث خلف الشمس. أسلوبه السينمائي يقوم على هذه اللغة البصريّة الصادمة، بجمعها السوريالية الغرائبية، مع جمالية شاعرية ملوّنة وصاخبة، وإن كانت عنيفة ومقزّزة أحياناً. كرنفال بصري ملوّن لا يجفّ، ولا يتوقّف عن إدهاشنا. يتوالد فيه المهرّجون والشعراء والراقصون والوحوش والأقزام والضفادع والخنازير وعمال السيرك، في مشاهد تصل إلى الهلوسة. لهذا ما زال يعتمد على التمويل الجماعي، لأنه يسعى إلى حماية ما عوّضه عن الألوان والفراشات التي فاتت عينيه في بلدته القاحلة الملاصقة للصحراء. بلدة لم يطأها المطر منذ ثلاثة قرون. مجال صناعة الأفلام، ومقاييس الإنتاج الربحية تكدّست أمامه، غير أنه ظلّ منحازاً إلى الشغف. هو الآن رجل حكيم في التسعين من عمره، يسدي النصائح برأفة تنفذ إلى رؤوس السائلين.



يصعب التعرّف إلى أن الرجل نفسه هو الذي صنع أغرب وأقسى مشاهد أفلامه في El Topo عام 1970، ثم في «الجبل المقدّس» (1973) الذي جاء كإعلان عن سينما بديلة، مختلفة بكل المعايير، بلا قصّة واضحة. لص قذر يجوب الشوارع مع الأقزام والأطفال الأشقياء، يصحو ليجد نفسه وقد صار مسيحاً معلّقاً على الخشبة. تتسابق الأدوات الرأسمالية على جعله مئات المسيح. هي الآلات نفسها تقريباً، التي تستطيع، في مشاهد أخرى من الفيلم، أن تصنع المتع الجنسيّة والفن وتسوّق لهما. قابل السبعينيات برؤيوية حادّة تصلح للعصر الحالي الذي تتشابه فيه الأرواح. وبالنسبة إلى مأزقه مع العائلة والطفولة، فقد تطلّب الأمر حوالى سبعين عاماً لكي يسوّيه ويتخلّص منه في سيرة ذاتيّة بدأها بشكل مباشر مع فيلميه الأخيرين «رقصة الواقع» (2013) ثم «شعر لا ينتهي» (2015). أثناء تصوير الشريط الأخير، أسرّ خودوروفسكي لفريقه بأن ما يفعله ليس فيلماً، بل علاج له. هكذا وضع والده على الشاشة لكيّ يتقبّله أخيراً. أنسَن «الوحش» ـ على حد تعبيره ــ الذي سخر دائماً من أحلامه الفنية وطارد كتبه الشعرية كما تُطارد الجرذان. حقق خودوروفسكي حلم أمّه سارة بأن تصبح مغنية أوبرا. حققه لها في «رقصة الواقع»، جاعلاً منها شخصيّة صوتية تجري حواراتها بالغناء الأوبرالي. ابنه يؤدّي دور والده الستاليني. الطفل في الفيلم يخاف العتمة، فيدهن جسده بالأسود. ربّما هذا هو التصوّر الأدق للعبة الواقعي/ السحري التي يقوم عليها الـ Psychomagic في السينما، والرسم، والكوميكس، والتارو بالطبع، بالاعتماد على تأثيرات الفلسفة الشامانية المكسيكية وتقاليد البوذية اليابانية. ليس هناك تاريخ موحّد لأوراق التارو. ثمة اعتقاد بأنها ظهرت في القرن الرابع عشر، بعدما جاء بها المماليك إلى أوروبا (النسخة الأصليّة معروضة في أحد متاحف تركيا). تعرّضت لتعديلات كثيرة طوال السنوات الفائتة، وتضمّ حالياً 78 ورقة، تتوزّع على أوراق أساسية وأخرى ثانويّة. بعيداً عن هذا التاريخ الموجز، توصّل خودوروفسكي إلى تعريفات متعدّدة لها تصبّ في ممارسته الفنية بأكملها.
فيلمه «سايكوماجيك: فن للشفاء» يُطرح في باريس بعد شهرين

التارو ـ وفق خودوروفسكي ـ موسوعة للرموز بلغتها البصرية والمتكاملة، تحمل كل منها رسماً لشخصية المجنون، ثمّ الساحر، والعاشق، والبابا… ينفذ من خلالها إلى الوعي الباطني، وزواياه القاتمة، والمشاعر والأفكار والعلاقة مع الخارج الحسي. لكن الفنان التشيلي، وصل في النهاية إلى أن القراءة لشخص بمفرده تبقى ناقصة، ومن الأجدى أن يقرأها أمام الجميع في المسارح، وفي مقاهي باريس التي هرب إليها بعدما انقطع عن عائلته تماماً، في الثالثة والعشرين من عمره ملتحقاً بمدرسة مارسيل مارسو لفنون الميم الأدائيّة. ليس سحراً أو شعوذة ما يمارسه خودوروفسكي على اليوتيوب. ما زالت نظرته حادّة مثلما كانت في السابق، وهو يقوم بتأويل (بالإسبانية مع ترجمة للإنكليزية) يستند إلى علم النفس والفن والفلسفة، ليخمد قلق السائلين. أحدهم، في الثالثة والخمسين من عمره، يشكو فشله في العثور على الحب حتى الآن. آخر، يواجه فشلاً في حياته كممثل. هناك شابة لم تصل إلى الحياتين الجنسية والإبداعية اللتين تطمح إليهما.



يعثر خودوروفسكي على الإجابات في وجوه التارو، بعد أن يفتحها بالاستناد إلى أرقام يختارها المشاهدون. من يستمع إلى نصائحه ونبشه في الأرواح، وتاريخها العائلي، سيحسّ بنفسه كهلاً وطفلاً، وهذا ما يدعو خودوروفسكي إلى فعله في بعض نصائحه، لسدّ ثقوب الماضي، أو للتخلّص من نظرة كره تلقّاها طفل من أمّه مثلاً، فينصحه بالعودة إلى مواجهتها بثياب الطفولة. غالباً، سيعثر المشاهد لفيديوهاته، على ما يشبهه في تلك الأسئلة، وفي الإجابات التي يقدمها المخرج الذي لطالما نفى عنه تهمة الجنون قائلاً: «أنا لست مجنوناً، أحاول أن أشفي روحي فحسب».