إن استحضار سعادة بعد 70 عاماً من غيابه هي خطوة جليلة لتكريم الفكر ورجالات النهضة. لذلك هي مناسبة ودعوة لدراسة فكر أنطون سعادة بطريقة علمية وحديثة خاصة مفاهيمه حول المدرحية والاقتصاد التعاوني والقومية الديمقراطية ذات البعد الانساني والعقلانية والحرية صراع والمناقب وغيرها. وهنا محاولة للإضاءة على بدايات أفكاره ــ المغيبة بشكل عام ـ التي تظهر مدى اهتمامه بالقضايا والعلاقات الدولية، وتبين كم كان صاحب رؤية واستشراف، خاصة أن الموضوعات التي طرحها منذ قرن ما زالت حاضرة اليوم. فبعد 70 عاماً على غيابه، ما زال سعادة حاضراً لأنه تميّز عن رجالات عصر النهضة بأنه ألغى المسافة بين النظرية والتطبيق، فكان قائداً وشهيداً لأنه مفكّر عملي. في هذه الدراسة، سوف اختصر بعض معالم استشرافات سعادة وحصرتها بكتاباته الأولى ما قبل تأسيس الحزب ما بين 1921 ـ 1933، والتي تجعل منه مفكراً عملياً بامتياز، صاحب رؤية ما زالت واقعيةً اليوم ومنارةً للغد.في أول مقال منشور له، وكان عمره 17 سنة، كانت كلماته «حتى الآن لم نر ما يدلنا على أن هنالك نهضة حقيقية نتفاءل بها... إذ لم يكن هنالك أعمال تنفيذية».
وفي ختام مقاله الأول المنشور بتاريخ 4/6/1921 في «الجريدة» في سان باولو يقول: «حب الوطن هو الأعمال التي يأتيها كل فرد تجاه وطنه».
هكذا منذ بدايته في الكتابة، وعى سعادة حركة الصراع القومي، والترابط العضوي بين العدو الداخلي المتمثل بالتعصب الديني والتجزئة القومية من جهة والعدو الخارجي المتمثل بالاستعمار والصهيونية من جهة أخرى.
يقول سعادة في 1/10/1921: «يجب على السوريين، إذا كانوا يطمحون إلى الاستقلال والحرية كأمة حية، أن يتحدوا كالأمم الحية التي سبقتهم، فيعتمدون على أفعالهم لا أقوالهم، وعلى اتحادهم لا منازعاتهم، وعلى أنفسهم لا غيرهم، لأن هذه هي الطريق الوحيدة إلى الحرية والاستقلال».


هذا التفكير العملي الذي اعتمده سعادة لإضرام «الثورة السورية» وتعبئة مكامن القوة في الأمة، لم يجرفه إلى اعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فقد ميّز بين «السياسة الرجعية القائلة بإعداد القوة واتخاذها وسيلةً لتنفيذ المطامح والمطامع» و«سياسة أخرى تقول بإلغاء المطامع وإبطال الاعتداءات ومنع استعمال القوة إلا لتأييد الحق والحرية والعدل».
وكم نحن اليوم بحاجة إلى التأكيد على هذا المبدأ في مواجهة الغطرسة الأميركية التي تستعمل القوة المفرطة للهيمنة على العالم، بينما الشعوب تتمسك بالمقاومة كخيار للدفاع عن الحق القومي، وتحقيق الحرية والعدالة لكل الأمم من دون هيمنة أو استفراد أو استكبار. وهذا ما استشرفه سعادة في مقال نشره في المجلة بتاريخ 1/5/1924 تحت عنوان «سقوط الولايات المتحدة في عالم الإنسانية الأدبي».
وهذا المقال الذي يحاكي الراهن جاء فيه «إن الشرقيين عموماً فقدوا الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وسائر الدول الغربية، لأن الولايات المتحدة لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستبداد..».
« ... ولتكن الولايات المتحدة على ثقة من أن الدولارات مهما كثرت وفاضت فهي لا يمكن أن تعمي بصيرة التاريخ... وستظل الولايات المتحدة ساقطة إلى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم».
لم يكتف سعادة بإدانة السياسة الأميركية لأنها أيدت وعد بلفور واستعمار سوريا، وخانت مبادئ الحرية والديمقراطية، بل أدانها أيضاً بسبب سياسة «القوة الحربية» التي تنتهجها للهيمنة على أميركا الوسطى والجنوبية والتدخل في شؤون أوروبا التي تنهشها المنازعات والحروب. وقد تنبه سعادة إلى بروز تيار قومي مناهض للهيمنة الأميركية بدأ يظهر في أمم الشرق وأميركا اللاتينية. ففي 12/11/1931، كتب سعادة في جريدة «اليوم» الدمشقية عن «تيار من الأفكار الثائرة المشبعة بروح القوميات الحديثة...» ويسير هذا التيار في وجهة الانتفاض على ما يسمونه «سلطة الولايات المتحدة الإمبراطورية». وهذا النزوع الإمبراطوري كتب عنه الكثير، أبرزها: «ما بعد الإمبراطورية» للمفكر إمانويل تود.
وكما استشرف سعادة «سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي»، استشرف أيضاً «أن العالم سائر إلى الاشتراكية بسرعة القطار المستعجل»، وتوقع «انتشار المبادئ الاشتراكية انتشاراً عظيماً لتخليص العالم من حروب المطامع والأهواء وإنقاذ الأمم من كابوس أصحاب رؤوس الأموال». وقد ميز سعادة بفكره الثاقب بين الاشتراكية التي أصبحت اليوم دين الحزانى والارقاء، وتطبيقاتها الخاطئة، فقال «لكن روسية لم تكن المثال الذي ينسج على منواله. بيد أنه إذا كانت روسية قد أساءت استعمال الاشتراكية، فليس ذلك دليلاً على فسادها ولا يحطّ من شأنها عند الذين فهموها وآمنوا بها...». وتوقع سعادة في حال انتصار «الاشتراكية المعتدلة» في أوروبا «تغيير تاريخ العالم» وتحوّل أوروبا من حال التنازع والحروب إلى حال التفاهم على «المبادئ» وحل العقد والمشكلات، «وهي الخطة الوحيدة التي يجب على أوروبا اتباعها لإبقاء سيف الحرب في غمده». وهذه القواعد التي دعا إليها سعادة لم تُحترم بل على العكس استمر «خطر التزاحم الاقتصادي... والتنازع على أسواق العالم... وهو في الغالب ممزوج بحب السيادة والسيطرة» .
وفي مقالة أخرى كتبها في «اليوم» الدمشقية بتاريخ 26/10/1931 حلل سعادة العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا «وانقسام المصالح العالمية انقساماً لا يعود بالخير العام. إن من أكبر العوامل التي حدت بحكماء السياسة الأوروبية أن يحاولوا الوصول إلى نوع من الاتحاد الأوروبي وجود مصالح أميركية مستقلة تزاحم المصالح الأوروبية... ولكن شؤون العالم الاقتصادية أصبحت اليوم مشتبكة بعضها ببعض اشتباكاً يجعل حالة قسم من العالم يؤثر في حالة قسم آخر مهما بعدت المسافة».
تميّز عن رجالات عصر النهضة بأنه ألغى المسافة بين النظرية والتطبيق


لكن أوروبا غرقت في منازعاتها، وعجزت يومها عن تحقيق اتحادها، ولم تتمكن من حلّ خلافاتها ومشكلاتها ما أدى إلى اندلاع الحرب، وما توقعه سعادة في العام 1924 اندلع حرباً عالمية ثانية طاحنة بين العام 1939 ـ 1945.
هكذا قرأ سعادة العلاقات الدولية على أنها صراع قومي على المصالح والموارد والنفوذ والمواقع الاستراتيجية، وليست كما يتوهم البعض اليوم، «صراعَ حضارات».. وهي مقولة هدفها تبرير حروب الهيمنة والتسلط التي تخوضها القومية الأميركية العدوانية التوسعية ضد مصالح القوميات الناهضة ذات البعد الإنساني التي تناضل من أجل إثبات حقها، وتحقيق سيادتها وحريتها ووحدتها، والمحافظة على هويتها. إن مقولة «صراع الحضارات» تعكس في أحد وجوهها مركزية الحضارة الغربية عامة، والأميركية خاصة، على حساب تهميش الحضارات القومية الأخرى. وقد أدرك سعادة هذه الحقيقة وفضح النزعة الغربية العنصرية التي تدّعي التفوق والمدنية «هذه الفلسفة التاريخية العقيمة التي أنتجتها أدمغة المؤرخين الغربيين المتعصّبين… وغالى بعضهم في وصف «المواقف التاريخية» التي أنقذ فيها الغرب المدنية من خطر بربرية الشرق… إن النهضات الوطنية في الشرق لا تهدد المدنية، بل تهدد البربرية الغربية… لا ينتظر الشرق ولا يجب أن ينتظر إنصافاً من الغرب أو من التاريخ الغربي القائل «أوروبة فوق الجميع»... لذلك نقول بوجوب إضرام ثورة عامة في الشرق، ونحبذ تباشير هذه الثورة البادية في سورية ومصر ومراكش والصين والهند وأقسام أخرى من الشرق... فإن إطالة أجل الاستعمار يعني إطالة أجل الذل والعبودية والآلام الكثيرة… وفعلياً، نجحت ثورات عدة في الشرق والتي عرفت فيما بعد بحركات التحرر القومي في العالم الثالث. وقد نالت عدة دول استقلالها كما أخفقت أخرى، وما زال الشرق حتى اليوم مدعواً إلى قيام جبهته العريضة التي عرفت يوماً بـ «دول عدم الانحياز»... وهي اليوم تعبر عن رفضها للهيمنة الأميركية بأشكال مختلفة، وما زالت تصارع من أجل تحقيق حريتها واستقلالها ووحدتها القومية تمهيداً لقيام حركة مناهضة العولمة والصهيونية ومختلف أشكال العنصرية والهيمنة، التي كما يقول سعادة متى «شبت الثورة الشرقية الكبرى المنتظرة ابتدأ تاريخ جديد غير التاريخ القديم البالي».
إن حركة التاريخ، كما فهمها سعادة من خلال استقرائه للعلاقات الدولية والتنازع بين الأمم على المصالح، هي حركة يسيّرها الصراع في اتجاه تطور إنساني متجدد ومستمر لا نهاية له، لا كما يحاول أن يصور فوكوياما بنظرية فوقية تريد إقفال التاريخ على الحقبة الأميركية.
التاريخ هو حركة صراع، والعامل الحاسم في مساره هو القوة. ومقولة الصراع لدى سعادة لها أبعاد متنوعة أبرزها: صراع الإنسان مع الطبيعة، صراع الإنسان مع الإنسان، صراع قومي بين أمة وأمة، صراع من أجل تحقيق القيم ومسائل المثل العليا، يتطلب شرحها دراسةً مفصلة أخرى. وحتى تمتلك الأمة مكامن القوة في عملية الصراع يجب عليها « الانتباه إلى علمائها ومفكّريها والاهتداء بنور علمهم وهداية تفكيرهم». وفي المجال نفسه ركّز سعادة على «القوة الفكرية» و«أهمية الصحافة» والمسؤولية الملقاة على طبقتها المتنورة... على خدمة التنوير الفكري».
إذاً، استشرف سعادة أيضاً أن القوة هي القول الفصل في عملية الصراع، وأن القوة لم تعد مقتصرة على الجوانب المادية من اقتصادية وعسكرية وغيرها بل أصبحت تشمل قوة الفكر والعلم والمعرفة. يقول سعادة: «المجتمع معرفة والمعرفة قوة». وقد خصص الفيلسوف الأميركي الفن توفلر كتابه المؤثر «تحول السلطة» للتركيز على المعنى الجديد للسلطة، وهو أن المعرفة هي القوة في هذا العصر بعدما كانت القوة «تنبع من فوهة البندقية» كما أن القوة كانت في مراحل أخرى تعتبر أن «المال يتكلم».
ويوم كان معظم رواد النهضة ورجال الفكر والثقافة غارقين في الخطب الرنانة والنظريات وإلقاء المواعظ، عرف سعادة كيف يكوّن رداً على عهود الانحطاط والجهل والتخاذل. وهكذا عرف من أين يبدأ، ومن أين تنطلق النهضة وحركة التغيير فقال في مقال نشره في «المجلة» بتاريخ 1/4/1933 ما يلي: «وأول ما يجب أن نبدأ به هو أن نحوّل التفكير النظري، الذي لا يحقق شيئاً بذاته إلى تفكير عملي يدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه... العمل للخير العام في ظل السلام والحرية... أقول: تفكير عملي مجموعي لأجعل منه ما يقابل التفكير العملي الفردي».
وكم نحن اليوم بحاجة إلى تجسيد هذا «التفكير العملي المجموعي» بديلاً عن المواعظ الرنانة البعيدة عن حركة الصراع والفعل في الواقع الملموس، وبديلاً عن المكاسب الأنانية والأداء الشخصاني.