في «الصراع الفكري في الأدب السوري» (1942)، قال أنطون سعادة بضرورة حدوث «نظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والكون والفن» ينشأ عنها «تغيير في مجرى الحياة ومظاهرها» (ص 49)، وأن النظرة الفلسفية السوريّة القومية الاجتماعية لم تؤثّر فقط في الأدب والفن، بل تخطّت ذلك لتشتمل على «الأعمال والأخلاق والمناقب» (ص49). وعين سعادة أبداً على الأخلاق والمناقب، فحصول «النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ يفتح آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة للشعور». هذه هي إذن «نقطة الابتداء لطلب سياسة جديدة وأشكال سياسيّة ولفتح تاريخ أدب وفن جديديْن» (ص 49)، فلا يفصل سعادة بين نهضة أدبية ونهضة فكرية. كلاهما رهن بحدوث نظرة فلسفية سورية قومية اجتماعية، «فالأدب والفن لا يمكن أن يتغيّرا أو يتجدّدا إلّا بنشوء نظرة فلسفية جديدة يتناولان قضاياها الكبرى، أي قضايا الحياة والكون والفن التي تشتمل عليها النظرة» (ص 49). ثم ينتقل سعادة إلى القول: هل من الضروري أن يكون التجديد الأدبي خاصّاً بمواضيع أمّة معيّنة، «فإذا تناول غيرها بطُلَ أن يكون تجديداً وفقد قيمته الأدبيّة» (ص 49)، فيقرّر أن القيمة الأدبية أو الفنية «ليست في هويّة أو (جنسيّة) الموضوع، بل في القضايا التي ينطوي عليها الموضوع وفي كيفيّة معالجة القضايا وفي النتائج الروحيّة الحاصلة من هذه المعالجة» (ص 50)، ومع ذلك يرى سعادة أنّ ذاتيّة الموضوع وزمانه ومكانه لها ناحية شعورية خاصة «وتقلّ أهميتها أو تعظم على نسبة الغرض الخفيّ أو المُعلن الذي يسوق الموضوع إليه» (ص 50)، لكنّه يلحّ على أن الاتجاهات الفكرية والشعورية تتأثّر بالموضوع. فإن كان خاصّاً كما في «بنت يفتاح» لسعيد عقل، «تعرض لفقد كل مبرّر عام» (ص 50) وخالفَ المثل العليا التي يبغيها الشعب المكتوب له الموضوع أو ناقضَ تلك المثل والخطط النفسيّة التي تبرزُ بها مواهبه الجديرة بالإعجاب والبقاء. وعند سعادة إن «بنت يفتاح» «تدخل في الأدب اليهودي الخاص أكثر مما تدخل في الأدب السوري» (ص 50)، وإن «عبقر» لشفيق المعلوف «هي أيضاً قصيدة سوريّة في موضوع غريب» (ص 50).منطلق سعادة رفض القاعدة الفردية التي تتوقّف عليها شهرة الشاعر، فهذه قاعدة تؤدّي إلى الاستعلاء والتفرقة والفوضى والعداوة والحسد (الصراع الفكري، ص 71). يطمحُ سعادة إلى حشد «جميع القوى النفسيّة لرفض عالم النزعة الفردية والغايات الماديّة، هي هذه القاعدة: طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى» (ص 72). يرى سعادة أن خصائص النفس (السوريّة) وأُصولها والعلاقات «بمجرى الفكر والشعور الإنسانيين الراقيين كما ترسمه الأساطير السوريّة التي جاءت النظرة السورية القومية الاجتماعية إلى الحياة والكون والفن تزيل الطبقات التي تراكمت عليها ودفنتها» (الصراع الفكري، ص 60) هي ما يوجد «الاستمرار الفلسفي بين السوري القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد، ويظهر الفرق العظيم في النتائج الروحية بين الاهتمام بالخرافات والمواضيع الغريبة، والعناية بالأساطير الأصليّة ذات المغزى الفلسفي في الوجود الإنساني» (ص 60 – 61). يدعو سعادة «شعراء سورية» (ص 65) إلى الأخذ «بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ» (ص 65) ينجرﱞ عنها فهم جديد للوجود وقضاياه، وبهذه النظرة وهذا الفهم تتضح «حقيقة نفسيتنا ومطامحنا ومثلنا العليا» (ص 65). في دعوة سعادة هذه عودة إلى الجذور وردّ اعتبار إلى الأصالة. يصرّ على ضرورة توظيف أسطورة تمّوز: «ليست قصة أدون أو أدونيس مجهولة. وكلّ متأمّل فيها يجد لها مغزى وعلاقة وثيقة بمجرى الحياة. وهذه ليست القصّة الأسطوريّة الوحيدة. ففي اكتشافات رأس شمرا، قرب اللاذقية، ظهرت حقائق رائعة عن عظمة التخيّل السُوري في الحياة وقضاياها الكبرى» (ص 61). بهذه الإشارة فتح سعادة باباً جديداً في القول الشعري، لا سيّما تحت خانة ما اصطلح على تسميته الشعر التمّوزي وما ينطوي عليه من مضامين البعث بعد الموت والخصب إثر اليباب. رأى سعادة أنّ ارتباط الأدبي والسياسي بالنهضوي وثيق، «فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في السياسة، لا توجد سياسة جديدة ولا نهضة سياسيّة، وكذلك في الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في الحياة، لا يمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية» («الصراع الفكري»، ص 27). للنهضة (القومية) عند سعادة «مدلول واضح، وهو خروجنا من التخبّط والبلبلة والتفسّخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جليّة صحيحة واضحة نشعر أنّها تُعبّر عن جوهر نفسيّتنا وشخصيّتنا القومية الاجتماعيّة» (الدليل إلى العقيدة، ص 49)، وهذا يتطلّب الوضوح في القصد والوضوح في الأهداف» (ص 85) و «إيجاد وسائل تؤمّن حماية النهضة القومية الاجتماعية الجديدة في سيرها» (من رسالة سعادة، 10/12/1935، وهو في سجن الرمل في بيروت، إلى محاميه حميد فرنجية). فالقوميّة هي «الروحية الواحدة أو الشعور الواحد المنبثق من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان. إنّها عوامل نفسيّة منبثقة من روابط الحياة الاجتماعية الموروثة والمعهودة، قد تطغى عليها، في ضعف تنبّهها، زعازع الدعاوات والاعتقادات السياسية، ولكنها لا تلبث أن تستيقظ في سكون الليل وساعات التأمل والنجوى» (سعادة، «نشوء الأمم»، 1937، طبعة 1951 ، ص 180، في: الدليل إلى العقيدة، ص 265 – 266). نحن هنا مع وحدة الذات (القومية)، أو الأنا الكليّة، التي تستمد حيويّتها من حوافز أصليّة مغروزة فيها، وتنهض في بيئتها الخاصة بها، وهذا مصدر الأصالة وبعث النهضة: العودة إلى مصدر الحياة ووِحْدتها وحقيقتها الأولى والأخيرة، إلى الذات في فطرتها الأصلية.
في «الصراع الفكري»، يلحّ سعادة على الأخذ بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن، بمعنى يترافق فيه الأدب والحياة «فيكون لنا أدب جديد لحياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الإنساني وقضاياه» (ص 69). هذا الأدب يجب أن يكون «الواسطة المُثلى لنقل الفكر والشعور الجديديْن، الصادريْن عن النظرة الجديدة، إلى احساس المجموع وادراكه إلى سمع العالَم وبصره فيصير أدباً قومياً وعالمياً لأنه يرفع الأمّة إلى مستوى النظرة الجديدة ويضيء طريقها إليه، ويحمل، في الوقت عينه، ثروة نفسيّة أصليّة في الفكر والشعور وألوانهما إلى العالم» (ص 69).
الثروة النفسيّة هذه هي إحدى الخصائص القوميّة التي رآها سعادة حصيلة تفاعل ينشأ عنه الاتحاد في الحياة، أي أن حياة واحدة تجري في مفاصل الأمّة، حياة واحدة «ذات دورة اجتماعية اقتصادية واحدة» (سعادة، «نشوء الأمم»، ص 165)، وهي هذه الدورة التي تشدّ الأمّة وتشكّل رابطتها الأساسية فإن «كلّ ميزة من ميزات الأمّة أو صفة من صفاتها تابعة لمبدأ الاتّحاد في الحياة الذي منه تنشأ التقاليد والعادات واللغة والأدب والدين والتاريخ» (165). الوعي الذاتي لهذا المنطلق النهضوي، أساس النظرة الجديدة التي يدعو سعادة إلى إرسائها في حيّز حضاري مُشبَع بالحريّة.