المسؤولية الاجتماعية، إحدى أشهر النظريات الإعلامية التي لا تزال تؤثّر على واقع الميديا مهما كان شكلها وبغض النظر عن أي تطوّرات طرأت أو قد تطرأ على ممارسة المهنة. أوّل ظهور للنظرية كان بعد الحرب العالمية الثانية عندما قدّمت لجنة «هاتشينز» لحرية الصحافة تقريرها في كتاب «صحافة حرّة مسؤولة» في عام 1947. الهم الأكبر بالنسبة إلى هذه اللجنة كان التشديد على «تنزيه المهنة وإبعادها عن الأخطاء والأهواء والتأثيرات المنوّعة» لأنّ السقطات التي قد تُرتكب «لا تعني الصحافيين حصراً بل تتحوّل إلى خطر يهدد المجتمع»، ما يعني أنّ الوقوع في الخطأ «يقود الرأي العام إلى الخطأ أيضاً». وهذا ما يذكره ايضاً الأكاديمي جورج صدقة في كتابه «الأخلاق الإعلامية بين المبادئ والواقع» الذي أصدرته جمعية «مهارات» قبل عشر سنوات. على الرغم من الانتقادات التي توجّه إليها، تكتسب النظرية أهمية بالغة كونها تستهدف وضع ضوابط أخلاقية (ذاتية) للصحافة والتوفيق بين حرية الإعلام المقدّسة ومسؤولية أهله تجاه مجتمعاتهم. كما أنّها تقوم على مبدأ أنّ الالتزام تجاه المجتمع يكون من خلال مستويات مهنية للصدق والموضوعية والتوازن وتجنّب نشر «كل ما يؤدّي إلى الجريمة والعنف والفوضى»، وفق ما يورد حسن عماد مكاوي في كتابه «نظريات الإعلام» الصادر عن «الدار العربية للنشر والتوزيع» في 2009.
(إديل رودريغيز ــ كوبا)

مع ولادة البيئة الرقمية والتطوّر التكنولوجي المتسارع وتحوّل الإنترنت إلى جزء لا يتجّزأ من حيواتنا، برز هاجس الأخلاقيات الإعلامية باكراً لدى الاختصاصيين في مجال الإعلام في الولايات المتحدة، لا سيّما في ظل التغييرات الجذرية في الأداء المهني التي كانت يومها تلوح في الأفق ووصلنا إليها اليوم. في عام 1997، جمع لقاء بين أعضاء «اتحاد الصحافيين الأميركيين» و«مركز بوينتر» الإعلامي من جهة، وعدد من الصحافيين من جهة أخرى للتباحث في إمكانية تطبيق أخلاقيات الصحافة التقليدية وقيمها ومعاييرها على الإعلام الجديد. لم يتطلّب الأمر الكثير من الوقت قبل حسم الموضوع بأنّ الصحافي يبقى صحافياً في أي وسيلة إعلامية اشتغل ومهما كانت المنصة أو الطريقة!
مناسبة هذا الكلام (والتذكير) أنّه قبل أيّام، قامت الدنيا ولم تقعد في لبنان بعد تسريب تسجيل صوتي لباتريك مبارك عبر مواقع التواصل الاجتماعي يضجّ بالأفكار غير المترابطة والسطحية التي تنم عن جهل عميق. هاجم مبارك رئيس الجمهورية ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، كما أهان فئة من اللبنانيين وحرّض عليها، معتبراً أنّ ما يفعله تنظيم داعش هو «تطبيق لتعاليم الإسلام الحقيقي». الـ«فويس نوت» سُرّب عن طريق الصحافية في موقع afalebanon الإلكتروني، أماني فياض، التي كانت تجري مع الممثل اللبناني مقابلة في سياق تحقيق تعدّه عن زيارة الممثل التركي بوراك أوزجفيت إلى بيروت الأسبوع الماضي. في حديث سابق إلى «الأخبار»، أوضحت فياض أنّها أقدمت على هذه الخطوة لأنّ «التسجيل الذي تضمّن تهديداً لعون ونصر الله كان وقعه قوياً... ثم انتشر سريعاً على نطاق واسع بسبب العبارات المسيئة والصادمة التي تلفّظ بها الممثل، كما أنّه ذكر رقم هاتفه، كأنّه يجاهر بعباراته التي تنمّ عن حقده».
هكذا، قرّرت أماني فيّاض تسريب التسجيل بمنتهى الخفة وقلة الأمانة وانعدام المسؤولية. بحثت عن إثارة رخيصة ربّما بهدف اكتساب بعض الشهرة، في حين ما كان من الإعلام المهيمن وروّاد السوشال ميديا إلا أن تلقفوا الكلام الموتور للمتاجرة بالعصبية وصب الزيت على نار مشتعلة في هذا البلد المأزوم والمنقسم على نفسه! علماً بأنّ فياض نشرت على حسابها على فايسبوك أمس بياناً مطوّلاً نفت فيه أن تكون تبحث عن سبق صحافي.
وفي إطار «ترند» البلاغات «الحريصة» على الطوائف والقامات السياسية والمقامات الدينية، تقدّمت المحامية مي الخنسا (رافعت يوماً عن فضل شاكر!) أخيراً بإخبار إلى النيابة العامة التمييزية مرفقاً بالتسجيل الصوتي للممثل المذكور الذي يتضمن «تحقيراً للشعائر الدينية والتعرض لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله». وأمس الخميس، قرّر النائب العام التمييزي بالإنابة القاضي عماد قبلان إخلاء سبيل مبارك بسند إقامة وإحالة الملف على النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بحسب الاختصاص، بعد خضوعه في صباح اليوم نفسه لمعاينة من قبل الطبيب الشرعي، تبيّن في نهايتها أنّه يعاني من «بعض الأمراض»، وفق ما أفادت «الوكالة الوطنية للإعلام». جاء ذلك بعدما كان باتريك قد خضع لاستجواب أوّل من أمس الأربعاء في قسم المباحث الجنائية المركزية بإشراف قبلان، أمر في ختامه الأخير بتوقيف مبارك على ذمة التحقيق. وفي الوقت الذي يتردّد فيه أنّ مبارك يعاني من اضطرابات نفسية منذ سنوات، أصدرت النقابات الفنية في لبنان (لا ينتمي باتريك إلى أي منها) بياناً موحّداً دعت فيه إلى عدم التعامل معه «في أيّ عمل فني ومقاطعته بشكل تام». موقف أثار حفيظة عدد كبير من الزملاء الذين رأوا فيه «مخالفة لمهمّة النقابات الفنية عموماً». في سياق متصل، وجّه الممثل وسام حنّا تحية افتراضية «لبيّ الكلّ فخامة الرئيس عون. يلي بعد ما عرف بقصة مرضو لباتريك مبارك وكلّو مكتبو محامي يتابع قضيتو ... هيك بكونوا رجال الوطن». أما الممثل باسم مغنية، فشدّد على أنّ مضمون كلام باتريك «فتنوي ومعيب وغير أخلاقي»، غير أنّه أكد أنّ أولاد المهنة يعرفون أنّه مريض، و«ما بعمري باخد على كلامو ولا بعمرو أذى حدا»، معتبراً أنّ المؤذي هو ناشرة التسجيل. مشهد يحيلنا فوراً إلى حوادث لا تحصى في مصر، حيث أصبحت دعاوى «الحسبة» الشغل الشاغل والوحيد لكثيرين ممن يتربّصون بالناس لأتفه الأسباب. جميعنا نعرف المحامي نبيه الوحش والشيخ يوسف البدري، أليس كذلك؟
إخلاء سبيله بسند إقامة بعد تأكيد الطبيب الشرعي أنّه «يعاني من أمراض»


في حديثه مع «الأخبار»، يرى المستشار القانوني في «مؤسسة مهارات»، طوني مخايل، أنّ القاضي قبلان بات مرغماً على التصرّف بمجرّد تقديم إخبار وتحرّك الرأي العام. ومن المرجّح أن يكون التوقيف ومن ثم إخلاء السبيل استناداً إلى التقرير الطبي نوع من «التخريجة» لـ«امتصاص الغضب واحتواء الموقف».
قانون العقوبات اللبناني يجرّم الإساءة إلى الأديان. بحسب المادة 474 (عدلت بموجب قانون 0/1954) تنص على أنّ مَنْ «أقدم بإحدى الطرق المنصوص عليها في المادة 209 على تحقير الشعائر الدينية التي تمارس علانية أو حثّ على الازدراء بإحدى تلك الشعائر عوقب بالحبس من ستة أشهر الى ثلاث سنوات». صحيح أنّ الأمر يتعارض مع ما ذُكر في الفقرة (ب) من مقدّمة الدستور اللبناني حول أنّ لبنان «عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الانسان، وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات دون استثناء»، غير أنّ القيود القانونية موجودة لحماية التركيبة الطائفية. في هذا السياق، يلفت مخايل إلى أنّه يتعيّن إجراء تعديلات قانونية تُدرج مثلاً «الآراء المتطرّفة والتحريضية ضمن خطاب الكراهية الذي يحرّض على العنف على أساس الدين أو العرق أو الجنسية...».
لسنا هنا في صدد الدفاع عمّا صدر عن باتريك مبارك. لكن، لرؤية الصورة كاملة، حريّ بنا أن نأخذ عوامل عديدة في الاعتبار، بدءاً من حالته النفسية والصحية، مروراً بالمجتمع المأزوم والمتخم بالعنف أصلاً (لم ننسَ حادثة قبرشمون بعد) حيث باتت أي حادثة تافهة تتحوّل إلى قضية رأي عام، وصولاً إلى أنّ الجهل والتعصّب يتجسّدان في نماذج نواجهها في يومياتنا. فنحن نعيش في بلد يعاني مواطنوه من تأثيرات سلبية عديدة تقع مسؤوليتها على النظام أوّلاً، وتدفع الرأي العام المتوتّر نحو فخاخ التجييش والتطرّف بدلاً من نبذها كما يفعل الواعون.