لم يراهن كثيرون بداية على قدرة المخرج الأميركي رون هاورد ــ رغم خبرته المديدة ــ على صناعة وثائقي يسجّل سيرة لوتشيانو بافاروتي (1935 ــــ 2007)، الرجل ذي الحنجرة الذهبية، وأشهر تينور إيطالي منذ الأسطورة إنريكو كاروزو. كانت صحف إيطالية قد انتقدت تولي مخرج أجنبي مهمة قد لا يستوعب أبعادها كاملة سوى إيطاليّ قحّ. لكن الوثائقي الذي أنجزه هاورد، يبدو بحق عملاً يليق بالنجم الكبير، نجح في تحقيق ذلك التوازن الدقيق والحساس بين بافاروتي الصورة المبهرة والأسطورة كما في المخيال الجمعيّ عنه، وبافاروتي الإنسان البسيط خلف تلك الصورة.الفيلم بكامله يعتمد في سرديته على مواد أرشيفية نادرة، بما فيها 53 مقابلة مصوّرة تمثل جلّ ما يتوافر عن بافاروتي من حضور أمام الكاميرا خارج نطاق لحظات التجلي الفنيّ في حفلاته. لكن هاورد نجح في ما لم ينجح به آخرون، إذ تمكن من تسجيل شهادات عن الفنان الراحل من زوجته الأولى (أدوا فيروني) وبناتها الثلاث (كريستينا ولورانزا وجوليانا) اللواتي لم يتحدثن أمام الكاميرا من قبل. وللحقيقة، فإنهن ظهرن سيدات مثقفات ذكيّات وجذابات. أضف إلى ذلك شهادة زوجته الثانية (نيكوليتا مانتوفاني). بالطبع، وحدهم الذين يذكرون الأجواء النارية بين السيدتين بافاروتي، سيقدّرون عبقريّة المخرج الأميركي في الإقناع. ومع شهادات كبار المغنين والموسيقيين الذين عرفوا الرجل (بلاسيدو دومينغو، خوسيه كاريراس، بونو، زوبين ميهتا ولانغ لانغ)، ومقاطع من حفلاته المبكّرة كذلك، إضافة إلى مقابلات مع أشخاص من وراء الكواليس، مثل مدير أعماله (هيربرت بريسلين، الشخصية التي يتفق الجميع على كراهيتها في صناعة الأوبرا) وسكرتيرته الشخصية وعشيقته لاحقاً (مادلين رينيه)... فإن كل المادة الخام لوثائقي ممتاز عن المغني الأسطورة كانت قد اكتملت بالفعل، أقلّه بالنسبة إلى الجمهور غير المتخصص الذي قد يعرف الأوبرا فقط من خلال بافاروتي.
اختار كاتب السيناريو مارك مونرو أن يبدأ شريط «بافاروتي» (114 د ــ 2019) بمقطع مصوّر له يشبه الخيال لم يعرض من قبل كانت قد صوّرته عام 1995 عازفة الفلوت أندريا غريمينيللي. يظهر المقطع بافاروتي وهو يقوم بزيارة مفعمة بعواطف متدفقة لدار أوبرا مدينة ماناواس في قلب إقليم الأمازون البرازيلي عبر النهر والغابات إلى حيث كان إنريكو كاروزو – أعظم مغني أوبرا في كل العصور – قد صدح بصوته قبل مئة عام. في المقطع، يرتجل بافاروتي قطعة من أغنية نابوليتانيّة (نسبة إلى نابولي الإيطاليّة) شهيرة، فكأنه يرسل بصدى صوته إلى الأركان نفسها التي لامستها أصداء أغنيات سلفه الأثير. وفق شريط هاورد، فإن بافاروتي ذلك المغنّي المتأنق السمين كان شخصاً انفعالياً كما طفل صغير، قادراً على الاندهاش بسهولة، سريع الغرق في الشغف، شعبوياً كما يليق بابن خبّاز، شديد العفوية في الجمع بين معالم شخصيته تلك وأعلى مستويات الأداء المحترف بأرفع أشكاله. لا بدّ من أن تلك هي العبقريّة مجسّدةً، على الأقل في نموذجها الإيطالي المحبب. وقد زادها لطفه وكرمه وسرعة بديهيته وتفهمه للآخرين جمالاً فوق جمال.
والده كان تينور هاوياً، لكن لوتشيانو نفسه كاد أن ينتهي مدرّس ثانويّة مغموراً في مودينا (حيث ولد ومات)، قبل أن يحدث ما يشبه «معجزة» لمصلحة البشر أنقذت موهبته النادرة ودفعت به إلى فضاء الغناء الأوبرالي المحترف اعتباراً من عام 1961. هذه «المعجزات» تكررت في أوقات لاحقة: استدعي في اللحظة الأخيرة (عام 1963) بديلاً من جيوزيبي دي ستيفانو الذي كان يفترض أن يؤدي دور رودلفو في أوبرا «البوهيميّة» على خشبة مسرح «كوفينت غاردن» في لندن. أذهل بافاروتي الجميع، وتحول من يومها نجماً عالمياً. في العام نفسه، التقى بجوان ساذرلاند السوبرانو الأميركية المعروفة التي تدين له علناً بتعليمها سحر التحكم الدقيق بالأنفاس وفق تقنيات غناء الـ «بل كانتو» الإيطالي ذي النغمات العريضة والكلمات الرقيقة. لكن تلك المنعطفات المهنيّة وغيرها كانت أموراً تحدث دائماً بمحض الصدفة وعفو الخاطر، من دون أن يكلّف النجم الراحل نفسه عناء التخطيط المسبق لها.
بحلول عقد السبعينيات، تكرست نجوميّة بافاروتي، فقدّم عروضاً متتالية في الولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا وإسبانيا وهنغاريا وتركيا حظيت بإقبال شديد، وصار ضيفاً يُترقب حضوره في كبريات دور الأوبرا حول العالم. لكنّ تلك الأسفار الكثيرة التي مكنته من الترقي مهنياً، كانت دائماً على حساب حياته العائلية وربما الصحيّة أيضاً. ورغم محاولته مَركزَة بيته في مودينا في قلب برنامج حفلاته، إلا أنّه كثيراً ما قضى جلّ وقته بعيداً، فانتهى إلى خيانات زوجيّة متكررة وإفراط في التلذذ بأطايب الطعام، بل شرع في الفترة الأخيرة من حياته المهنية إلى الإنفاق بكرم زائد على الأعمال الخيرية. ولا شكّ في أن بعض تلك الأنباء كانت تصل إلى زوجته التي بقيت مع ذلك صبورة تعتني بإخلاص ببناتها ومنزلها. لكن القشّة التي قصمت ظهر علاقته العائلية، كانت فضيحة إعلانه الرسمي لحبّه الجديد لنيكوليتا مانتوفاني وزواجه بها. مع ذلك، فإن السيدة فيروني ــ رغم جرحها العميق ـــ لم ينقل عنها شيء يسيء إلى زوجها الشهير، رغم محاولة كثيرين التصيّد في الماء العكر.
كان شخصاً انفعالياً كطفل صغير، قادراً على الاندهاش بسهولة، شعبوياً وشديد العفوية


في الثلث الأخير من تجربته الفنية، تحدّى بافاروتي جمهور الأوبرا الشديد النخبوية والتأنق، وأخذ أغانيه إلى ملاعب كأس العالم حيث حقّق شهرة طاغية ونجاحاً عظيماً وثراءً غير مسبوق أيضاً. ولا ينسى عشاق الكرة المستديرة العُتَقاء سهرة نهائي كأس العالم في إيطاليا 1990 التي أضاءها بافاروتي مع رفيقيه في ثلاثي التينور الأشهر بلاسيدو دومينغو وخوسيه كاريراس، فجعلوها ليلة خالدة لا تتكرر. لقد مسّ دفء روح هذا الكبير شغاف قلوب ملايين البشر من دون استئذان.
تردّت صحة بافاروتي في السنوات اللاحقة، وتقلّصت مرات ظهوره على المسرح بسبب الزيادة المفرطة في الوزن قبل أن تشخص إصابته بسرطان البنكرياس، فقدم متألماً آخر عرض أوبرا له في مدينة نيويورك عام 2004. ثم قدّم آخر عروضه العامة في الأولمبياد الشتوي في تورينو (إيطاليا) عام 2006 عندما غنّى مودعاً جمهوره وبلاده والحياة برمتها للمرة الأخيرة، بينما الجموع الحاشدة تؤدي معه دور الكورال المصاحب، في مشهد مهيب مؤثر أبكى الملايين.
يبدو هاورد في شريطه شديد التعاطف مع بافاروتي، إلى درجة أنه تجاهل ذكر فيلم «نعم يا جورجيو» الفاشل الذي قدّمه في هوليوود عام 1982 مع الممثلة كاثرين هارولد. وتلك بالطبع فجوة في وثائقي يفترض أن يكون بمثابة الكلمة الأخيرة والتامة عن سيرة الرجل، ولا سيّما أنّ دور جورجيو ذاك لم يكن سوى هفوة صغيرة لا يخشى أن تلقي بظلال كثيرة على سيرة مهنيّة ظافرة. مع ذلك، نجح هاورد في شريطه أن ينعش حبّنا للنجم الاستثنائي مجدداً، حتى كأنّك وأنت ترافق «بافاروتي» نحو النهاية المحتومة في خاتمة الشريط، تكاد تحس بغصّة فقدان صديق حميم. يا له من شخصية لا تنسى!

* «بافاروتي» في الصالات اللبنانية