«أهلاً بكم في «شباب توك» من قلب العاصمة الألمانية برلين»، تلك الجملة الافتتاحية التي اعتاد جعفر عبد الكريم قولها منذ ثماني سنوات على الهواء، ختم بها الحلقة الأخيرة من برنامجه مساء الثلاثاء الماضي. بعيد اندلاع ما سمّي بـ «الربيع العربي»، خرج «شباب توك» في تموز (يوليو) عام 2011، على شبكة «دويتشه فيليه» الألمانية الناطقة بالعربية، ليقطف ثمار الحراكات العربية، عبر إيصال صوت الشباب المكتوم والمكبوت في ظل أنظمة قمعية، رافعاً شعار «كي نكون صوتك أنت». لغة المخاطب التي رافقت حلقات البرنامج الحواري التفاعلي، طيلة هذه السنوات، كانت مفتاحاً للنجاح، ولحصد جماهيرية معتبرة. هذا الأمر يعود طبعاً إلى طبيعة شخصية عبد الكريم (مواليد 1981) التي تتسم بالديناميكية والحيوية، ولا تقبع في زاوية «الأنا» ومحوريتها.إذاً، ودّع «شباب توك» جمهوره ليلة الثلاثاء، وكان الصحافي اللبناني حريصاً على التفاعل بعد الحلقة مع جمهوره المنتشر على المنصات الافتراضية. توقف البرنامج في عزّ نجاحه، لينتقل إلى تجربة أخرى لم يُفصح عنها، في خطوة ذكية تثبّت نجاح «شباب توك»، وتشتغل على مفاصل أخرى تخصّ ربما الفئة الشبابية في العالم العربي. أسباب نجاح البرنامج قد لا تعدّ، لكن يمكننا القول بأنّ «دويتشه فيليه» منحت «شباب توك»، سقفاً عالياً من الحرية التي قد لا تكون متوافرة حتى في أهم المنابر التي تدّعي احتضان نقاشات عالية الحساسية، من دون قصّ أو رقابة لا على الضيوف ولا على المضيف. ثماني سنوات استضافت أكثر من 900 ضيف من خبراء وشهادات احتضنهم استديو البرنامج في العاصمة الألمانية، وفي باقي المدن العربية. فقد زار البرنامج 11 دولة عربية وأجرى تحقيقات ميدانية فيها مثل: الدوحة، الرباط، عمان، تونس، القاهرة، بغداد، بيروت، الموصل وغيرها، وفتح نقاشات ومواضيع تخصّ هذه العواصم وأهلها. لم يكتفِ البرنامج بطرح الأسئلة وانتظار الإجابات من الضيوف، بل حرص في كل مرة، على تدعيم ثوابت المهنة وقواعد برامج التوك شو. في كل حلقة، ومع كل قضية مطروحة، يضع «شباب توك» أرقاماً وحقائق، لتنطلق منها النقاشات، ويبنى على أساسها الحوار. الحوارات هنا ليست مجانية، ولا تستثمر لتعبئة الهواء، بل تحاول إيصال الصوت المكتوم، والتفتيش عن حالات وشهادات يوفر لها منبر للتعبير وحتى لمواجهة الجهات المعنية. ومن عوامل نجاح البرنامج أيضاً، إصرار القائمين عليه، على أن يكون على تماس مباشر مع الجمهور أكان افتراضياً أو واقعياً. لا ينسلخ البرنامج عن هذه السمة، بل يتولى جعفر عبد الكريم عادةً أو المسؤولون عن صفحات البرنامج على السوشال ميديا، متابعة التعليقات ومحاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة. وربما شكّل هذا العامل الجسر الذي عبر عليه «شباب توك» إلى جمهور العالم العربي، وبنى قاعدته عليه، حتى مع المختلفين والمنتقدين للقضايا المثارة العالية الحساسية، كالحريات الشخصية (المثلية الجنسية)، والحريات الدينية (التديّن والإلحاد)، والسياسية أيضاً.
نجح البرنامج في الوصول إلى أكثر من مليون متابع على فايسبوك باستخدام لغة سلسة وديناميكية


قضايا شتى خاضها «شباب توك» على مدى حلقاته، ولاقت ضجّة عارمة على مواقع التواصل، وأحدثت صدمة عند كثيرين، حتى من غير المتابعين للشبكة الألمانية وللبرنامج. فقد نجح فريقه ـ عبر استخدام لغة سلسة وديناميكية ـ في الوصول سريعاً إلى أكثر من مليون متابع ثابت على صفحة البرنامج الفايسبوكية، فيما شاهد أكثر من مليار شخص مختلف الفيديوات التي ينشرها البرنامج، عدا السقف العالي من حرية التعبير التي وجد فيها العديد من الضيوف فرصة للتعبير عن أحوالهم، حتى تلك الحساسة التي تحتاج إلى جرأة للبوح بها. بالتأكيد، لن نسمع في أي برنامج مماثل شهادة تقول إنّ «الشرف يرى من بين أقدام النساء» للتعبير عن اختزال صورة «الشرف» بهذه النقطة فقط. كل هؤلاء احتضنهم البرنامج، وشبّك مع وسائل إعلام مختلفة محلية إذاعية وتلفزيونية، لإعادة بث حلقات البرنامج، وإيصال صوته وصورته إلى شرائح أوسع. ومن الاستديو في برلين وفي عواصم عربية ذكرناها آنفاً، إلى مقاربة قضايا اللجوء أكان في مخيمات لبنانية، أو أردنية وغيرها للاجئين السوريين، فتحَ البرنامج حوارات وطرح معضلات تخص هذه القضية، خصوصاً في برلين حيث يتجمّع عدد لا بأس به من المهاجرين السوريين وغيرهم. هنا، خصصت حلقات ضمت هؤلاء، إلى جانب مسؤولين ألمان في دوائر الهجرة. ولا يمكن نسيان الحلقة التي أجراها مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، عشية الانتخابات البرلمانية الألمانية (2017). إذ اختارت ميركل جعفر عبد الكريم لمحاورتها للمرة الثانية على التوالي، وخاض معها حواراً كسر كل تقليد لمقابلة سياسية في عالمنا العربي. إذ اتسمت المقابلة بالجرأة والشفافية في طرح النقاشات والنقاط التي تحتاج إلى إيضاحات، ولم يتكئ على الذوبان والتطبيل لسياسيّ مرموق كميركل. في المحصلة، أسدل «شباب توك» ستارته للمرة الأخيرة، مودّعاً جمهوراً بنى معه طيلة السنوات الماضية، علاقة تبادلية، أفقية، وليس كما يحصل مع البقية، عبر استخدام لغة الاستتباع. توقف في أوجّ نجاحه، لينتقل إلى تجربة أخرى، تنهل من جنينه الأول. «شباب توك» تجربة رائدة في الإعلام العربي في إدارة النقاشات والخروج بنتائج أو أقله طرحها بكل جرأة وشفافية، ولا شك في أنه حفر ولمس منتقديه أكثر من المتابعين المخلصين له.