يلاحظ ويليام بولك في مقدمة كتابه ما لاحظه كلود ليفي شتراوس وآخرون عن مركزية الغرب بالنسبة إلى أهله. يجمع بين ذلك وبين الأفكار الأساسية التي تدور حول الاستشراق. فهو ينتقد ويليام لانغر، الذي يصنّف «الإمبريالية» ــــ في كتابه الشهير الذي حمل اسمها ــــ كفرعٍ من فروع التاريخ السياسي، بحيث أن الدبلوماسية بالنسبة إليه هي كل ما يحدث بين الأوروبيين فقط. والقول إن ذوات الآخرين في الجنوب، غير ممثلة في الأحداث إلا كمستَعمرين كانت قائمة في الزمن الإمبريالي فقط، ينطوي على قدر من المبالغة. ذلك أن هذا الوضع لم يتغيّر بالنسبة إلى التوسعيين تحديداً. بلطف شديد، يحاول الأستاذ في «جامعة شيكاغو» أن يجد التبريرات والتفسيرات لحدوث «إرهاب»، لكنه ينطلق من موقعه الغربي ليدافع عن «الإرهاب». فذلك الموقع بالنسبة إلى المؤرخ الحكيم هو صاحب الأهلية الوحيد في تحديد ما هو إرهاب وما ليس إرهاباً. لكن ذلك لا يلغي أنه اتخذ مسافة معتبرة بين الماينستريم الغربي وبين الحقيقة، عندما ينظر إلى العرب وإلى الإسلام، ويرى بوضوح.يغلق بولك احتمالات الثغرات المنهجية بحرفة. الرجل ليس جديداً في البحث، بل إنه حين يرنو إلى الارتجال في الشرح، يبدو واثقاً من دقة التوقيت. ورغم موسوعيته، فإنه باحث في النهاية، ويجعله هذا على درجة من الانتقائية. للحظة خافتة يظهر في معرض تناوله أسس الإسلام في الثقافة والمجتمع والاقتصاد. من ناحية، يبدو معجباً بالشِعر العربي قبل الإسلام «الذي يمكن مقارنته لجودته وغزارته بأفضل الشِعر في اليونان وإنكلترا وروسيا». ومن ناحية أخرى، يسلّم بالروايات الكلاسيكية عن الشِعر العربي وعلاقته بالإسلام. وقد يبدو للوهلة الأولى اختزالياً عندما يتحدث عن العربية، إذ يقول إنّ اللغة العربية الفصحى التي تكتب هذه الأيام هي ذاتها «بشكلٍ أساسي» التي أنشدت شِعراً في القرن السادس. وإن كان النفي أو التأكيد يحتاج إلى مراجعات فيلولوجية ـــ وهي غير متوافرة بدقة ــــ إلا أن حصر تاريخ الشِعر بالقرن السادس أي صعوداً مع الإسلام، يعزز نظرية طه حسين عن الأدب الجاهلي، التي لم يأت الكاتب على ذكرها.
غالباً يتحدث الكاتب المعروف بمواقفه النقدية تجاه النظرة الأميركية التقليدية للعرب، عن الحاضر أفضل مما يتحدث عن الماضي. بولك مؤرخ يستند إلى منهج، إلا أنه يجيد بناء ذلك الخيط بين الأزمنة وربطه بإحكام. يرى بولك أن تركيز الإسلام على دعوته «ما هو إلا استمرار للأديان السابقة، أدى إلى تبنيه الكثير من العادات والمعتقدات التي كانت موجودة قبله»، مستشهداً بالكعبة والحجر الأسود فيها. ورغم الطابع الأنثروبولوجي للاستدلال، إلا أن أداته الرئيسة تبقى سياسية، لأنه سيستخدم كل شيء لاحقاً لتفسير العلاقة مع «الغرب الصليبي». في نهاية الجزء الأول، يستنتج من بين استنتاجاته الأخرى أن نمط المذهب الشيعي موروث من الزرادشتية، وأن ترجمة هذه الديانة إلى الإسلام احتاجت إلى مئات السنين، إلا أن الطريق هذه بدأت بعد مئة عام على وفاة الرسول. المفارقة أنه يشبّه بدايات التشيّع ببدايات «داعش»، لكثافة الحضور الميتافيزيقي التي رافقت نشأة الدعوتين.
يحفر بولك عميقاً، يحفر ربما في ذاكرته الطويلة في المنطقة، أكثر مما يحفر في مصادره. في الجزء الثاني، يعود إلى التاريخ كناقد يحدد الطبيعة الإمبريالية التي أحاطت الصراع بين الفرنسيين والمصريين بوصفها مثالاً للإمبريالية الممارسة أيام الصليبيين، وكما تمت ممارستها لاحقاً في أفريقيا وآسيا. فقد كان جيش نابليون مشبعاً بالأفكار الصليبية: الجنوب قذر. وردّ الجنوب بالطريقة نفسها. لكن اللافت أن بولك يستند إلى سرديات بميل استشراقي واضح، عندما يصف جمال النساء المصريات، ويعتبره غير ملائم «للذوق الأوروبي». في هذا الجزء الطويل الذي يتناول فيه التوسع الشمالي نحو الجنوب، يحاول بولك إنصاف حركات المقاومة العربية في زمانها، لكنه سرعان ما يسرد من دي توكفيل في 1847 من دون أي ملاحظة نقدية: «لقد جعلنا مجتمعاً مسلماً أكثر بؤساً وبربرية مما كان قبل أن يتعرف علينا». اللافت أيضاً أنه يتبنّى سرديات الحداثة بصيغها المتداولة عربياً. ففي معرض تأكيد فرضيته، بذهاب العرب إلى الخيار القومي وهو خيار متخيّل، يتبنّى سرديات الحداثة العربية بصيغها المتداولة من دون تشكيك. وربما تأثر فارس الشدياق وبطرس البستاني بالطهطاوي، هو أوضح دليل على ذلك. فالبستاني ـــ حسب بولك ــــ أسس مدرسة علمانية «وطنية» للحث على الوصول إلى الأفكار الأوروبية. لكن ما هو طريف فعلاً، وقد يسبب «مغصاً» للبنانوية التعيسة الصاعدة في أيامنا، هو استعارة بولك في عرضه للتاريخ، صدور صحيفة «النفير السوري» بإشراف من البستاني، التي هدف من خلالها إلى بث روح الوحدة في وطنه. وليس مرور لبنان في البحث غريباً، فالبحث موسوعي ويبدو أشبه بتأريخ للتأريخ.
الكتاب هو محاولة جدية لتفسير أثر الإمبريالية حين بدأت صليبيةً وصولاً إلى ما هي عليه الآن


من خلاصاته اللافتة تشبيه التجربة الماليزية بالتجربة الجزائرية، مع فارق بأن القادمين لم يكونوا أوروبيين بل آسيويين، كأنه بخلاصاته هذه ينسى ما عرضه بنفسه عن فظاعات الفرنسيين في الجزائر. وبعد قراءة طويلة لعودة المسلمين إلى الإسلام، يذهب بولك إلى استنتاجات حول الحاضر. إيران والإخوان المسلمون وما بينهما. حزب الله وحماس. فلسطين، لكن بأثر كولونيالي رجعي. أشياء كثيرة أقرب إلى التحليل من قربها إلى التاريخ. من بين ما يذكره إفادة إيران من غزو أفغانستان، وإفادة أميركا من حدود إيران مع أفغانستان. يقرأ ويحلل ويخرج عن ثيمته الأساسية، أو يدور حولها ويعود إليها: «لم يشهد العالم مثل تلك الحروب الدينية الكبرى في أوروبا منذ نحو 400 سنة مضت». كأنه عن غير قصد يعود إلى المركزية الأوروبية. أما ما هو مقصود قطعاً، فهو اعتماد التاريخ والسياسة بعلاقاتها وتشعباتها مصدراً رئيسياً للتحليل في الفصلين الأخيرين من الكتاب، وتجاهل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية في إنتاج العنف في مقابل دور العنف الغربي في إنتاج صورة هذا الآخر.
رغم كل ما قد يستوقف القارئ العربي، إلا أنّ الكتاب هو محاولة جدية لتفسير أثر الإمبريالية حين بدأت صليبية بتطوراتها على ما هي عليه الآن، على الصورة المتبادلة للغرب التوسعي في عيون المسلمين، وصورة المسلم معكوسة للمتوسعين. في خاتمة كتابه، يستذكر بولك السينما. كيف أن أسوأ سكّان أميركا الأصليين كان إرهابياً ومخيفاً... جيرونيمو، الذي اجتاح السهول الغربية وهو يذبح الرجال البيض والنساء والأطفال. يستذكر كيف أن السينما كانت أسوأ مصدر لإنتاج معرفة حول الآخر، أو لإعادة إنتاج هذه المعرفة، التي تنتجها العلاقات الدولية يومياً. والصيغ تزداد ابتذالاً في أي حال، حتى وصلت إلى ذروتها في عصرنا: «صفقة القرن»!