غزة | ا يزال اللغط مستمراً حول مشاركة محمد عساف (1989) في افتتاح «المونديال» في البرازيل في حزيران (يونيو). إلا أنّه قبل أيام، أورد موقع برنامج «صدى الملاعب»، على قناة «أم. بي. سي.» أنّ النجم الشاب سيشارك في الحدث الدولي بعد مراسلات بين رئيس الـ«فيفا» جوزيف بلاتر ورئيس «الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم» اللواء جبريل الرجوب في هذا الصدد.
منذ فوزه بلقب «محبوب العرب» (mbc) في حزيران (يونيو) 2013، انقلبت حياة محمد عساف رأساً على عقب، وابتعد عن صورة ذاك الفتى الذي أسر الفلسطينيين بابتسامته وانتصاره على ظروفه الصعبة ورحلته العجائبية من غزة إلى القاهرة للمشاركة في تجارب الأداء في برنامج المواهب الشهير.
لطالما كان الفلسطينيون المعذّبون يتسمّرون أمام شاشة mbc، باحثين عن مساحة من الفرح في صوت عساف (الأخبار 25/5/2013). ولطالما كان الغزّيون يردّدون اسمه على ألسنتهم، ويثبّتون صوره على جدران منازلهم ومخيماتهم. تعلّق الفلسطينيون بابن مخيّم خان يونس إلى أن بات حديث سائق التاكسي، وعامل البناء، والطفل الصغير الذي حفظ «علِّ الكوفية» عن ظهر قلب. هؤلاء رافقوه في كل حلقات «محبوب العرب». حين كانت الساعة توجّه عقاربها إلى التاسعة مساء، كانوا ينفضون عن أنفسهم شظف العيش، ودوامة السياسة اللامتناهية، ليواكبوا الشاب الوسيم لحظةً بلحظة. الفقير قبل الثري نحّى الحصار الذي يلفّ غزّة جانباً، وتعالى على عوزه، فصوّت لعساف غير آبهٍ بقيمة الرسالة النصية. بقي الفلسطيني المغلوب على أمره على هذه الحال، إلى أن انهمرت دموع عساف على وجنتيه بتتويجه بلقب «محبوب العرب». دموع كانت كفيلةً بانهمار دموع أبناء شعبه في كل أماكن وجوده ورقصت غزّة وغنّت حتى ساعات الصباح بعد ليلة فوزٍ توشّحت سماؤها بالألعاب النارية. الجميع نوى احتضان عساف وتقبيله، فهو «البطل» الذي أزاح الهمّ عنهم قليلاً. انتظر الفلسطينيون عسّاف على أحرّ من الجمر، غير مكترثين ببعض المحاضرات الدينية التي سعت جاهدةً إلى تجريم الفلسطينيين بدعمهم لابن بلدهم، وتحريم الفرحة وتنغيصها عليهم. وأخيراً، اقترب عساف منهم وحطّت أقدامه في أرض غزّة في حزيران (يونيو) الماضي. لم يعيروا أدنى اهتمام لأشعة الشمس الحارقة وطول الانتظار على بوابة معبر رفح، والاكتظاظ المهول جرّاء تشوّق الجماهير لرؤياه. تدافع الغزيون لإلقاء ولو نظرة خاطفة على عساف، غير أن الأخير قرّر تغيير مساره بفعل المجموعات البورجوازية المرافقة له التي يُوصف ثراؤها بـ«الفاحش»، ومغادرة رفح قبل أن ينهال الغزّيون البسطاء عليه لالتقاط ربما صورة تذكارية معه وتصديرها إلى مواقع التواصل الاجتماعي. هذه المجموعات التي لم تستحِ في استقبال قيادات جيش الاحتلال الصهيوني في قصورها وتباهيها بالتطبيع، عمدت تدريجاً إلى نزع عساف من حضن جماهيره الفلسطينية إلى حضنها. خير مثال على ذلك رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري الذي رافق عساف في رحلته إلى غزّة آنذاك، علماً بأنّه استضاف مراراً قيادات من جيش الاحتلال في بيته في الضفة المحتلة.
كثيرةٌ هي المبرّرات التي سيقت وقتها حول عدم نزول عساف من سيارته عند معبر رفح، والتحامه بمن يفترض بهم أن يكونوا جماهيره لا «شلّة غوغائيين». تمثّلت أهم الحجج في عدم «حضاريّة الجماهير ورقيّهم»، فهم «غوغائيون» لا يجيدون التعبير عن حبّهم بهدوء! منذ ذلك الحين، انفضّ كثيرون عن عساف، وخصوصاً الغزيين المؤازرين له. آخرون رأوا أنّ بعض الفلسطينيين يحمّلون عساف فوق طاقته، فهو لا يعدو كونه أداة في أيدي الأثرياء والمستثمرين ورجالات السياسة، كأن هذه الحنجرة باتت ملكاً لسلطة رام الله، على رأسها محمود عباس الذي أغدق على عساف لقب «سفير فلسطين للشباب». منذ لحظة الفوز، تجمّعت السلطة الفلسطينية حول عساف وبدأت بنسج علاقات معه لاستثماره سياسياً في محاولة لمحو فسادها وتنسيقها الأمني مع العدو عبر اللعب على وتر العاطفة الجياشة التي يكنّها الفلسطينيون لعساف. ليست السلطة وحدها من وظّفت الشاب في الترويج لها ولو بشكل غير مباشر. أقحمت الجهات الدولية كوكالة «الأونروا» والوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID نفسها في هذا المضمار. «الأونروا» التي تشنّ حربها على اللاجئين هذه الأيام، مع إعلانها تقليصاً إغاثياً واحداً تلو الآخر، منحت عساف قبل أشهر لقب سفير النوايا الحسنة وسفير «الأونروا» للشباب، من أجل تسويق خدماتها المقلّصة وغير المتلائمة أصلاً مع حجم الكارثة التي يعيشها اللاجئون.
أيضاً، ثمّة حكاية أخرى تجمع بين USAID و«محبوب العرب». هذه الوكالة التي تبتز الفلسطينيين وترغمهم على التوقيع على وثيقة تعرف بـ«وثيقة نبذ الإرهاب» للحصول على منحة مالية منها، استثمرت عساف لصالحها، فعرضت قبل أسبوع صورةً على صفحتها على الفايسبوك أظهرت التقاء عساف بمدير الوكالة في غزّة والضفة ديفيد هاردن، وعُلّق عليها بشكل ساذج «انظر من قابل كلٌّ من مدير USAID في الضفة الغربية وقطاع غزة، ديفيد هاردن، وخبير التنمية الاقتصادي غسان الجمل خلال هذا الأسبوع؟ إنه محبوب العرب محمد عساف!» هذه الصياغة الجوفاء لم تحمل في طيّاتها سوى دغدغة لمشاعر الفلسطينيين، ومحاولة لشراء ولائهم. عساف الذي شدا للشهداء والأسرى والمقاومة، ودعا البلد إلى تمالك نفسه عبر أدائه أغنية «شدّ حيلك يا بلد»، غاب عن ذهنه أن كلّ من غنّى لهم باتوا الآن في عداد «الإرهابيين» و«المخرّبين» وفقاً لوثيقة «نبذ الإرهاب» التي تعتبر كل أعمال المقاومة الفلسطينية إرهاباً!
أين كان هؤلاء حين كان عساف يحيي حفلات متواضعة في غزة؟ لمَ لم تكلّف السلطة نفسها آنذاك عناء البحث للعثور على عساف وأمثاله، رغم أن أغنيته «علِّ الكوفية» تردّد صداها في كلّ فلسطين؟ أسئلةٌ ربما لو استوقفت عساف، لقرر حينها مغادرة ذلك المستنقع، والالتحام بمن أحبوه صدقاً.

يمكنكم متابعة عروبة عثمان عبر تويتر | OroubaAyyoubOth@




زيارة خاطفة لغزة

قبل أسبوع، زار محمد عساف غزّة للمرّة الثانية. وصل عبر حاجز «إيريز» الذي يفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة. لكن هذه المرة، لم يهرول المعجبون لانتظاره عند الحاجز بسبب دخوله غزّة من دون أن يحدث ضجة إعلامية، أو يحدّد بالضبط موعد مجيئه. هكذا، لم يعرف عن قدومه سوى رواد الإنترنت والفنادق الفارهة، فالتقى بعدد من المعجبين والمعجبات في أحد الفنادق، والتقطوا الصور التذكارية معه التي عرضوها لاحقاً على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما كان الندم نصيب آخرين. الندم كان على التصويت لعساف، غير غافرين له عدم إدراكه أهداف من يحتضنونه حالياً.