ما إن تداول رواد تويتر صورة الروسية داشا زوكوفا رئيسة تحرير مجلة «كاراج» وصديقة المليونير رومان أبراموفيتش مالك نادي «تشيلسي» اللندني، وهي تجلس على مقعد تشكَّل من امرأة سوداء البشرة، حتى صارت هذه الصورة الموضوع المحبّب في الصحف والمواقع الإلكترونية: انهالت المنابر بتهم العنصرية في وجه صاحب الصورة وتضخّمت القصة بما يكفي لتصير سجالاً أبعد ما يكون عن جوهر المشكلة، وتحوّلت إلى محاكمة أخلاقية عاطفية وتوعوية، ستضفي على الظاهرة المزيد من التضليل.
طُرحت سلسلة متصلة من الأسئلة التي لا تضعنا أمام نهاية محددة: ما الغاية من صنع كرسي على شكل امرأة سوداء شبه عارية في وضعية «سادو مازوشية»؟ لماذا تجلس صديقة ملياردير روسي على هذا الكرسي؟ وكيف استطاعت المدونة BURO 24/7 أن تخطئ التوقيت إلى هذا الحد وتنشر الصورة يوم 20 كانون الثاني (يناير) الموافق لتاريخ إحياء ذكرى مارتن لوثر كينغ الذي أحدث «حُلمه» تأثيراً عميقاً في المجتمع الأميركي وفي حركة الحقوق المدنية؟ اجتمعت إذاً كل الأسباب الأخلاقية لشن هجوم على صاحب الموقع الروسي «Buro 24/7 » الذي أزال الصورة ونشر اعتذاراً مفاده أنّه يعارض بشكل قاطع كل فكر يدعو إلى العنصرية أو الاضطهاد أو الإهانة بكل أشكالها «إننا ننظر إلى هذا الكرسي في سياق فني بحت، ونعتذر من كل قرائنا الذين أحسوا بالإهانة من عرض هذه الصور.» أما زوكوفا فقد دافعت عن نفسها في بيان رسمي جاء فيه: «هذه الصورة التي نشرت خارج سياقها تماماً، هي عمل فني تم إبداعه خصيصاً كتعليق على التمييز الجنسي والسياسي».
مصمم هذه القطعة الفنية هو النرويجي المقيم في نيويورك بيارني ميلغارد (1967) الذي لا يبدو معنيّاً بتقديم شروحات حرفية لما يفعل، بل اكتفى بالقول إنّ «الموضوع الملحّ الآن هو الاحتباس الحراري». هذا الفنان «الذي يتقيأ القذائف» كما تصفه صحيفة «نيويورك تايمز»، كان اشتغاله واضحاً على بنية بصرية تحتفي بالعنف لخلق تأثير استفزازي قوي عند المتلقي. نتذكر هنا منحوتته التي جسدت الشخصية الكرتونية لـ«بينك بانتر» وهو يدخن مخدر «الميثامفيتامين». يبدو ميلغارد اليوم أكثر ميلاً للمواجهة، تنطلق أعماله من نمطية إعلامية رائجة، لكنها تؤسس لجدل حول الهوية والمعتقد والعلاقات، ويسائل في صورته التي وُسمت بـ«العنصرية» تيمة القوة والسلطة وتمثيلاتها. هذا المقعد الذي لم يكن مخصصاً ليستقبل «ثقل» السيدة زوكوفا، هو إعادة قراءة لعمل مُماثل للرسام والنحات البريطاني آلان جونز (1937). قدّم الأخير في الستينيات مشروع «كراسي، طاولات وشمّاعات» عبارة عن منحوتات «بوب آرت» شمعية تصوّر نساءً على هيئة قطع أثاث منزلي، في إشارة إلى وضع المرأة حينها. بحثه عن انعكاس تشكيلي ملتصق بالحياة الاستهلاكية لا يخلو من مبالغات، فألهم شركات الأثاث والديكور Korova Milk Bar وOrange mécanique.
تجربة ميلغارد تضعنا أمام اختبار لقناعاتنا، وخصوصاً أنّ تمثال امرأة جونز «البيضاء» لا يزال معروضاً في متحف «تيت» اللندني، وقد أصبح مألوفاً ومتعارفاً عليه. لأي سبب إذاً يتعرض التمثال الأسود لهذه الموجة من الانتقادات؟ لا بدّ من إعادة خلق تعريفات جديدة، ومنطقية تعيد إلى الأصل بُعده الصدامي وقدرته على المُساءلة. في مقال دفاعي عن ميلغارد، كتب جوناثان جونز في صحيفة الـ«غارديان» البريطانية أنّ الفنان وقع في فخّ معجبيه الذين لجأوا إلى نشر الصورة، نازعين عنها إطارها، مضيفاً: «قد يكون عمله الفني رديئاً، لكنه أبداً لم يقصد أن يكون عنصرياً. لقد أراد إعادة تسميم فن آلن جونز بنية مناقضة تماماً لتهمة العنصرية: لقد أراد باختصار مساءلة السلطة وتمثيلاتها. هل شعرتم بالإهانة برؤية امرأة سوداء مذلَّة؟ لماذا لم تشعروا بذلك أمام صورة امرأة بيضاء مذلّة بالطريقة نفسها ومعروضة باحترام في «تيت غاليري»؟ إنّ الإهانة في الفنّ هي دوماً وسيلة للسخرية من اللاعدالة».
سرعان ما نكتشف أن الالتباس الذي يمرره «الكرسي العنصري» ينقلب علينا وعلى واقعنا الرهين بتحليلات جاهزة، حيث كل شيء قابل للتأويل والتشويه. ذلك أنّ السمة النضالية التي تتسم بها كتابات المواقع الاجتماعية يشوبها الكثير من الأحكام التقريبية والتعميم الذي يظلم الإبداع ويمنع النقاش الحقيقي.