كتب كمال بلاطة (1942) عن الفن الفلسطيني طويلاً، وأنجز مجموعة مؤلفات أبرزها «الفن الفلسطيني ــ من 1850 إلى الحاضر» (2009)، لأنه وجد غياباً لهذا الفن قبل تاريخ النكبة عام 1948. أول من أمس، واصل النبش في هذا الإرث، خلال ندوة قدّمها في «دار النمر للثقافة الفن» في بيروت بالتعاون مع مركز «الشبكة» البحثي. ندوة «سفر بين الشفافيات» التي شكلت لقاءً بأبرز وجوه المحترف التشكيلي الفلسطيني، كانت دعوة استثنائية إلى تجاوز لوحته أو المنطق الذي يكمن وراءها. منطق راكمه خلال أكثر من نصف قرنٍ من المنافي والأسفار بين الخطوط والألوان والشفافيات والجغرافيات. في المحاضرة المكثّفة، فتح بلاطة لوحته على قراءة جمالية متفرّدة وشاملة لسيل من المدارس الفنية العالمية، والحضارات والأساطير، والرياضيات والهندسة، والأدب والفلسفة والأديان التوحيديّة، موسّعاً بذلك مرجعيات الفن العربي المعاصر نفسه؛ من لوحات كاندنسكي التجريدية، والقصور والمساجد الإسلامية والأيقونات البيزنطية، ومؤلفات إدوارد سعيد وجون بيرجر، ومتواليات فيبوناتشي الرياضية.... وإذا كانت لوحة بلاطة تجمع كلّ هذه المرجعيات، وحياته شهدت كل هذه الأسفار، فإنها قادته مجدداً إلى المدينة التي جاء منها، وظلّ بعيداً عنها لأكثر من خمسين عاماً. في القدس، حيث درس رسم الأيقونات في محترف «خليل الحلبي»، تمكن من رؤية روائع الفن الهندسي الإسلامي في مسجد قبّة الصخرة. ومن بحر يافا، تنبّه للمرّة الأولى إلى الشفافيات اللونية والمائية التي عاد ورآها مجددّاً بعد سنوات طويلة خلال إقامته في قريّة فرنسية صغيرة مطلّة على البحر الأبيض المتوسّط. بالنسبة إليه، فإن النظر عبر طبقتين لونيتين يتيح له تذكر مكان ما خلال وجوده في مكان آخر. رحلة بلاطة البصرية بين الأشكال الهندسية (المربعات) والخطوط، والألوان والخط الكوفي، وإيقاعات القصائد العربيّة، كانت تجسيداً فنياً لأسفاره بين المنافي والدول من إيطاليا وأميركا وفرنسا وألمانيا.
من سلسلة «بلقيس» لكمال بلاطة (أكريليك على كانفاس ــ 120 × 328 سنتم ــ 2013)

في اللقاء، انطلق الفنان الفلسطيني من مجموعة أسئلة لا تنطفئ في تاريخ الفن العربي، بالاستناد إلى تجربته الطويلة: «هل يمكننا أن نصيغ جمالية عربية معاصرة جديرة بتحديات الحاضر؟»، و«كيف نبدأ في قراءة هذه التحديات في ضوء ما نمتلكه من معطيات الانفتاح بحيث نستجيب الاستجابة الحقة في بلورة أصالة معاصرة تعزز فضاء التحاور مع الأصالة التي تميز بها تراثنا الحضاري؟».
اتخذ بلاطة من خماسيّته بلقيس التي أنجزها في السنوات الأخيرة (مؤلّفة من خمس لوحات ثلاثية التكوين) مدخلاً للإجابة عن هذه الأسئلة، مركّزاً على جماليات الشفافية المائية وتحوّلات الألوان في تراثنا. يقترح بلاطة اللقاء الشاعري بين ملكة سبأ بلقيس والملك سليمان، كما ورد في القرآن («قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ») مصدراً لتأسيس جماليات الشفافية في التاريخ الفني العربي والإسلامي. حين دعاها سليمان للدخول إلى القصر، خالت أن الزجاج ماء، فرفعت ثوبها كي لا يصله البلل، لكنها ما إن علمت أنه بلّور أعلنت إيمانها. تقصىّ بلاطة تجليات هذه الجمالية في منمنمات مخطوطات الطبري، وفي السمات الهندسية في العمارات والقصور والمساجد الإسلامية من بغداد إلى قرطبة. وهي تصاميم تمثّلت في دمج عنصري البلور والماء، وتوهّج الفضاءات المعمارية بالشفافية من خلال لمعان الجدران، والانعكاسات في برك الماء المحيطة بالقصور كما في تاج محل وباحة الرياحين في قصر الحمراء في غرناطة وفي باحة مسجد نصر الملوك في شيراز. واصل بلاطة تتبع هذه الشفافيات على أرضيات المساجد التي تعطي انطباعاً بصرياً بأنه سطح مائي، بسبب تلقيه للانعكاسات كما في باحات المسجد الكبير في دمشق، ومسجد القرويين في فاس، والمسجد الكبير في حلب. يرى الفنان، أن لتلك الأسطح المتلألئة، ما يماثلها في الكنائس البيزنطية «وإن كان ثمّة اختلاف جوهري في المصدر ودلالاته» وفق تعبيره. فالمؤمنون المسيحيون حاولوا استعادة ذكرى أمواج بحر الجليل ووقوف المسيح عليه، فنقلوا هذا «المجاز المطمئن للمصلين» إلى أرضيات الكنائس والكاتدرائيات كما كاتدرائية آيا صوفيا من القرن السادس. وإن كان التشابه بين الفنين البيزنطي والإسلامي، قد أخذ مساحة واسعة لدى المؤرخين الفنيين، فإن بلاطة الذي ركّز على الشفافيات المائية وتشابهها تحديداً، ذهب أيضاً إلى السمات التجريدية الهندسية. قدّم توطئة لدور الفن الإسلامي في التأثير على الفن التجريدي مطلع القرن العشرين أوروبا، مسترجعاً معرض «روائع الفن المحمّدي» في مدينة ميونيخ عام 1910، والذي حضره أشهر فناني تلك الفترة. أبرز هؤلاء كان الفنان الروسي كاندينسكي (مبتكر أوّل لوحة تجريدية في تاريخ الفن الأوروبي) الذي كان يعيش في ميونخ حينها، وبول كلي وهنري ماتيس اللذان سافرا بعد المعرض إلى تونس والمغرب والأندلس. وبالعودة إلى سؤال الفن المعاصر، ومعنى أن يكون الفنان معاصراً، خصوصاً لناحية تأثر أعمال بلاطة بالفن الهندسي في الفن الإسلامي، فقد استعان بتعريف للفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبن: «المعاصر هو امرؤ يباغت عينيه شعاع العتمة الذي ينبثق من قلب زمنه. إنه القادر على اختراق الزمن والقيام بتحويله في علاقة بينه وبين الأزمنة الأخرى. معنى أن نكون معاصرين هو أن نعود إلى حاضر لم نكن فيه أبداً». بناء عليه، تابع بلاطة «الرسم هو مكان إقامتي»، الذي جاء تكريماً للقدس كمكان لفن الأيقونة البيزنطية والفن الهندسي في الإسلام.
قراءة جمالية متفرّدة تنقلت بين المدارس الفنية والحضارات والرياضيات والهندسة والأديان


إلى جانب قراءاته الجمالية التي قادته إلى استخلاص ما يجمع هذين الفنين، وظف بلاطة في سلسلته «بلقيس» صيغة هندسية رياضية هي متتالية أرقام ليوناردو فيبوناتشي (يمثل كل رقم مجموع الرقمين اللذين يسبقانه). هنا، توقّف عند جذر هذه الصيغة، فعاد إلى صيغة أخرى نشأت في بغداد خلال القرن العاشر كان يستخدمها التجار العرب، وإلى الرسائل التي كتبها أبو بكر الكرخي وأبو الوفاء البرزجاني فكانت مصدراً أساسياً لفيبوناتشي. أما المصدر الأساسي لهذه الصيغة، فيمكن تتبعها، وفق بلاطة، في العناصر الطبيعية مثل خطوط المحار وأزهار دوّار الشمس ونباتات أخرى. في تنقله بين هذه التقاطعات الجمالية والحضارية، قادنا بلاطة إلى القدس مجدداً، وتحديداً إلى قبة الصخرة في القدس التي تعد أول معلم معماري من معالم العمارة الإسلامية في القرن السابع. إذ أنها حوت تطبيقاً لمتتالية فيبوناتشي عبر نمطها المشع من المركز، والأشكال التي «تتماثل فيها تويجات الأزهار التي تولد انطباعاً بحركة دائرية ولولبية بطابع شعاعي موجودة في قباب المساجد في العالم الإسلامي». وفق بحث ميداني أجراه في المغرب وجنوب إسبانيا، بداية التسعينيات، توصّل بلاطة إلى أن هذه الحركة الدائرية المؤلفة من مربعين يشكل دورانهما نجمة ثمانية، هو البنية التحتية في مختلف نماذج الرقش والزليج ذات الطابع الشعاعي. أما دوران المربعين (المربع يمثل الأرض) داخل الدائرة (تمثل السماء)، فأرجعه بلاطة أيضاً إلى الشكل الذي رسم تقليدياً في مختلف الأيقونات البيزنطية التي تمثل تجلي المسيح بعد صعوده. وربّما كان التجسيد الأمثل للفنون المعاصرة وفق وصف أغامبن، يكمن في فترة القرن الثامن التي استعادها بلاطة. حينها تأثر الحرفيون والصناع الأمويون بالفن البيزنطي، فشرعوا في تطوير هذه الأشكال التي عادت وظهرت لاحقاً في القدس ودمشق وإسبانيا، ومن بغداد العباسية انتقل التجريد الهندسي إلى فارس والشرق الأقصى، وهذا ما عادت وفعلته طليعة الفنانين الأوروبيين بداية الفن العشرين. في نهاية المحاضرة، قال بلاطة إن اسم بلقيس ليس سوى اسم اللون غير المرئي في خماسيته. شرح عملية ومحطات إنجازها، التي لا تصل إلى النهاية إلا بعد أن يكون قد تأكد بلوغ سطح اللوحة شفافية معينة. بعد سنوات الترحال والتغرب في العالم، ولقائه بكافة الفنون «لم يكن فني سوى التعبير عن علاقتي بفنون العالم الذي جئت منه». اعترف في نهاية اللقاء، أنه حين ينظر إلى لوحته كما فعل نرسيس بنظره إلى الماء، لا يتمكن من رؤية وجهه، ربّما لأن لوحته سبقته إلى القدس.