أكثر من ثلاثة عقود وهو ينبش في عالم يحاصره العنف وتحده حدود جغرافيا صنعها الإنسان. يقاوم النسيان بالذاكرة، لا الذاكرة الإلكترونية، بل تلك الحية النابضة، ويربط الماضي بالحاضر، ليس ذاك المشبع بالمآسي فقط، بل بالحياة اليومية في كل تمظهراتها. ذاكرة، تظهر إلينا أحياناً على هيئة صورة معلقة في دكان غزاوي، أحياناً على هيئة أثر لملصق شهيد في شارع، وأخرى كصورة تخرج من خطوط عصر الديجيتال يشوشها البعد والحصار. في «ذاكرته المائية»، لوحات بدون ألوان، وفي «سفره المستحيل» تزحف معه الرمال أينما اتجه. ولأنه يعيش في عالم ديكوره العنف والظلم؛ لا يتوقف عن طرح أسئلة لن يفرغ منها، تارة للتاريخ، وأخرى للراهن. أما نحن، فلسنا مجرد متفرجين فقط، بل ربما مطالبون بأن لا نبقى بيادق في «نظام عالمي» لم يكتف بانتهاك الضعيف فقط، بل الأرض والطبيعة والحياة. قبل أن يغادر إلى بيروت ليقف بجوار أعماله (تنسيق منال خضر) التي افتتحت أمس في «مركز مينا للصورة»؛ زرنا تيسير البطنيجي (1966) في ورشته الفنية في باريس، فكان هذا الحوار.
«الرمل يأتي من النافذة» هو عنوان معرضك الجديد، من أين أتى ولماذا هذا العنوان؟
- هذا العنوان يأتي من مقاربة مع رواية حنا مينة «الثلج يأتي من النافذة»، ومن تجربة أليمة تعود إلى عام 2003؛ حين تم احتجازي على معبر رفح مع أكثر من ألف فلسطيني كنا نحاول دخول غزة، عجائز ونساء وأطفال ورجال في معتقل كبير، بقيت هناك ثلاثة أيام. كتبت يومها نصاً بعنوان «الرمل يأتي من النافذة» ونُشر في إحدى المجلات اليسارية هنا في فرنسا، أحكي فيه عن هذه الرحلة المضنية، بداية من لحظة انطلاقي من فرنسا، إلى مطار القاهرة، وصولاً إلى معبر رفح. طبعاً قبل حجز رفح، كان هناك حجز مهين آخر في مطار القاهرة، وهو الحجز الذي يتعرض له كل من يتوجه إلى غزة. وقتها، كان معبر رفح مسيطَراً عليه من قبل السلطات المصرية والاحتلال الإسرائيلي. كل ما كان يحيط بي في تلك الرحلة كان رملاً، صحراء في صحراء، كانت الرمال تزحف على الباصات والنوافذ والمباني، تزحف على وجوه المعذبين، على الأمتعة، وعلى كل ما هو حولنا. خلال تلك الرحلة، حاولت أن أصور الظروف والمشاهد والأحداث، لم يكن التصوير متاحاً دائماً، وكنت أدرب نفسي على التقاط الصور بعيني والاحتفاظ بها في الذاكرة كي أعود وأرسمها. وقتها، لم يكن الهاتف الذكي متوافراً، وفكرة إخراج كاميرا والتقاط صورة هي مغامرة قد تودي بصاحبها؛ وخصوصاً على جانب الاحتلال الإسرائيلي. نجحت في التقاط بعض الصور وكانت من الصور النادرة التي تعبّر عن ظروف السفر وعذاباته. هذا العنوان لا يحكي عن كل الأعمال التي ستعرض في «مركز مينا للصورة»، لكنه يمثل جزءاً أساسياً من الحالة التي أعيشها، وتلك التي خرجت منها الأعمال.

ما هي الأعمال التي يجمعها المعرض؟
- الأعمال بعضها معروف للجمهور، ولكن معظمها لم يعرض في بيروت. سيجمع المعرض أعمالاً من مجموعة «آباء» (2006)، ومجموعة «أبراج المراقبة» (2008)، وأعمالاً من مجموعة «إلى أخي» (2012)، هذه المجموعة اختفت بعدما اقتنتها مجموعة «أبراج ـ دبي» ولا يُعرف مصيرها حتى الآن، ولهذا أعدت إنتاج جزء من هذه المجموعة التي كانت تضم 60 عملاً، تتناول أخي الذي استشهد في بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى. نعرض أيضاً أعمالاً من مجموعة «آثار» (2016) التي رسمتها بالألوان المائية، والمتعلقة بالآثار التي تتركها الصور والملصقات على الجدران. وصولاً إلى مجموعة «انقطاعات» (2015-2017) وتأتي هذه المجموعة من اتصالات جرت بيني وبين عائلتي في غزة على مدى عامين، عبر أحد التطبيقات على الانترنت. حالياً يعرض جزء منها في متحف الفن المعاصر Mac Val في فرنسا. إذاً المعرض في بيروت هو بمثابة جولة فنية لأعمالي ضمن مراحل زمنية مختلفة.
من مجموعة «آباء» (صور فوتوغرافية تناظرية ـــ مطبوعة بتقنية الحبر النافث على ورق هانيمول ـ ٦٠×٤٠ سنتم ـ ٢٠٠٦ ـ بإذن من صالة «صفير زملر»)

نتكلم عن ثلاثين عاماً من الإنتاج الفني، بدأت من خلال اللوحة، لتنتقل بعدها إلى العديد من الوسائط الفنية، نأخذ جولة سريعة في تجربتك الفنية لنجد أن الصورة تحتل موقع الصدارة، لماذا الصورة تحديداً وكيف برزت مكانة الكاميرا في أعمالك البصرية؟
- تلقيت تعليمي الأكاديمي في فلسطين في «جامعة النجاح». الرسم والنحت كانا هما الأساسيين. اللوحة والإخلاص لها على وجه الخصوص، أول كاميرا حصلت عليها كانت كاميرا متواضعة اقتنيتها لغرض توثيق أعمالي، ولا أخفيك، كان هناك شعور بالتخوف والقلق أن تحرف اهتمامي عن اللوحة. انتقلت إلى فرنسا في عام 1994، درست في كلية الفنون الجميلة في «بورج»، وكنت أتلمس ملامح عالم فني جديد. كنت أمضي الوقت متنقلاً ما بين المتاحف، مواظباً على زيارة المعارض. وصولي إلى فرنسا كان بداية لتحول جديد، وفيها تكونت لديّ نظرة انسكلوبيدية تجاه الفن في العالم. هذا غيّر كثيراً من مفاهيمي عن الفن وممارسته التقليدية، ونقلني إلى وسائط أخرى متعددة. منذ عام 2000، أصبح التصوير هو الوسيط الأقرب الذي يحتل مركز أعمالي. بعدها اتسعت الأدوات والوسائط أيضاً. التصوير كان يعبر عما عايشته، ولكن أحياناً لم يكن واضحاً للآخرين؛ وهذا دفعني إلى إدخال عناصر وأدوات أخرى إلى الصورة. كنت أجد نفسي دائماً في موقف الشرح والتوضيح حول تجربتي التي تتقاطع مع فلسطين. لم أكن أتطرق إلى الموضوع الفلسطيني كثيراً، ولكنني كإنسان وكفنان كان علي أن أحدد موقفي من خلال عملي، ليس بطريقة اللجوء إلى الخطاب المباشر طبعاً، بل من خلال عكس وتسجيل الحالة. تجربتي كفلسطيني هي تجربة مصغرة عن التجربة الجماعية للفلسطينيين. ومن هنا بدأ الربط بين التجربة الشخصية وتلك الجماعية، بين الحاضر والتاريخ. حاولت في أعمالي الأولى أن أربط بين هذه الأفكار، والصورة كانت وسيطاً تسمح لي أن أقترب أكثر إلى الواقع من حولي، اللوحة تعبر عن مشاعر ومكنونات داخلية. أما الصورة فتشتبك مع الواقع الملموس، وهذا كان يلتقي مع أفكار كثيرة تدور في رأسي. في تجربتي الفنية كإنسان وكفلسطيني، كنت أرغب أن أنتج أعمالاً ملموسة قريبة من الحاضر وتعبر عنه. من ناحية أخرى، التصوير كان يتفق مع نمط حياتي البعيد عن الاستقرار. الكاميرا تسمح لك بالعمل والإنتاج تحت الظروف الصعبة، والمسافة والجغرافيا، ليس كاللوحة التي تحتاج إلى مكان وأدوات وتحضير وانتظار. هذا لا يعني أنني تركت الرسم، لم أنقطع عن اللوحة، لكن طريقة تعاملي معها اختلفت إلى حد كبير. بين كل الوسائط الفنية، أنا منحاز إلى الصورة، وأحياناً أكون مهووساً بها، أصبح التصوير جزءاً من ممارساتي اليومية. وعندما لا أحمل الكاميرا، أفتح عينيَّ على اتساعهما، ألتقط مشهداً وأطبق جفنيَّ لتعلق الصورة في الذاكرة، ليست تلك الإلكترونية بل ذاكرتنا البيولوجية التي هي أساس أعمالي. لا أعتبر نفسي مصوراً فوتوغرافياً بالمفهوم التقليدي، حتى مقارباتي للتصوير والصورة بشكل عام تختلف عن شكل الصورة الفوتوغرافية العادية. أعمالي تسائل الصورة وتسائل أشكال التمثيل المعروفة والمألوفة. الصورة سمحت لي أيضاً بتلافي مشكلة الجغرافيا والمسافة. في بعض المجموعات الفنية منها «أبراج المراقبة» و«عقارات»، استعنت بمصورين أصدقاء من داخل فلسطين كي يلتقطوا لي الصور التي بنيت عليها العمل الفني.
في تجربتي الفنية كإنسان وكفلسطيني، كنت أرغب أن أنتج أعمالاً ملموسة قريبة من الحاضر وتعبر عن


هذا الهوس بالصورة، دفعك أحياناً إلى التوثيق، هل فكرت يوماً بعمل سينمائي؟
التوثيق ليس من أجل التوثيق فقط، هو نوع من تسجيل سيرة ذاتية أو جمعية. السينما هي أم الفنون كما يقال، فهي تتقاطع مع كل أشكال التعبير الفني والأدبي. لا أستبعد أن يكون لي في يوم ما تجربة سينمائية. أتحدث هنا عن السينما المستقلة بالطبع (le cinéma d’auteur). مشروعي الفني مفتوح على كل الاتجاهات وعلى كل ما هو جديد بالنسبة لي ويخدم رؤيتي الفنية. هذا يتطلب أيضاً بعض الخبرة التقنية، وأن تتوافر والإمكانيات والشروط اللازمة لصناعة فيلم.

في أحد أعمالك غير المعنونة (2015)، نشاهد أقلام رصاص، على هيئة شريط مدفع رشاش، يحيلنا العمل إلى فكرة المقاومة وعلاقتها بالفنون، كيف تنظر إلى علاقة الفن بالمقاومة؟
- السياق الذي أتى منه هذا العمل يعود إلى عمل آخر ظهر في عام 2009 بعنوان «حنون» عرض في «بيانالي البندقية» وفي بيروت أيضاً، يتكون العمل من عنصرين، صور لمرسمي في غزة الذي لم يعد موجوداً، ونشارة أقلام رصاص، تلك النشارة التي توحي بشكلها بزهرة الحنون المرتبطة بفلسطين. بعد إنجاز هذا العمل، نتج لديّ بقايا أقلام رصاص مبعثرة على الأرض ذكرتني بخراطيش الرصاص. احتفظت بهذه البقايا، وفي عام 2015 عدت إلى هذه الأقلام واشتغلت عليها فنياً لتظهر على هيئة شريط خرطوش لمدفع رشاش. تزامن هذا العمل مع أحداث «شارلي إيبدو»، ولهذا تردّدت في عرضه أو حتى نشر أي صورة منه، كي لا يتم ربطه بما وقع في باريس. انتظرت عاماً كاملاً لإخراج هذا العمل وعرضه في «مركز الفن الحديث» في كولمار ـ فرنسا. الخلفية اللاواعية لهذا العمل قد ترتبط بفكرة الفن والمقاومة، لكنني لست متأكداً أن بإمكان الفن تغيير العالم، أو أن ينتصر في معارك أو يعيد الحقوق الضائعة، لكنني في المقابل مؤمن بدور الفنون في توسيع الآفاق وطرح الأسئلة والنقاش وزعزعة المسلّمات وخلق الوعي. هذه أمور في غاية الأهمية في معرض حديثنا عن المقاومة.

في مجموعة «إلى أخي» (2012) حفرت 60 لوحة، مكرسة لشقيقك الذي استشهد بطلقة قناص جيش احتلال أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكبرت وأنت ترى المشروع الوطني الفلسطيني ينهار، هل الإنتاج الفني هو بمثابة رد على الواقع، أم أنّ الفن هو تلك الممارسة التي تطرد عن تيسير البطنيجي شعور الهزيمة، أم ربما غير ذلك؟
- ممارسة الفن بدأت كضرورة، منذ الطفولة. التكوينات البصرية كانت دائماً تأسرني، والدي كان لديه متجر في أحد أحياء غزة، وكثيراً ما كنت أتوه أو أتأخر في طريقي لإيصال زوادة غدائه، كنت أشرد في طرقات متشعبة فقط لمشاهدة واجهات المحلات التجارية التي كانت تستخدم الرسم في إعلاناتها. الفن كان خياراً منذ الطفولة، إذاً هو ليس ردة فعل أو حتى وسيلة علاج نفسي، بقدر ما هو حيز للتفكير وطريقة للوجود وتسجيل الموقف تجاه الأحداث والعالم. لا أدّعي أنني سفير لفلسطين من خلال أعمالي، ولا أسعى إلى ذلك، حتى أعمالي التي تحتل فيها فلسطين موقع الصدارة هي في الغالب تنطلق من تجربة ذاتية. وكما قلت في البداية، عندما نتحدث عن فلسطين، فإن الذاتي غالباً ما يتقاطع ويتحول إلى جمعي.

«حنون» (2009)

تعيش في فرنسا منذ ما يقارب عقدين ونصف، ماذا تعني فرنسا بالنسبة لك؟ هل تسميها وطناً؟
- علاقتي مع فرنسا شائكة وملتبسة. عندما خرجت من فلسطين، كان لدي 25 عاماً. وفي هذه السن، يكون الوعي قد تشكل والتركيبة النفسية والفكرية أيضاً. البناء بعد ذلك يكون صعباً وخصوصاً لشاب قادم من فلسطين، لطالما تراوحت علاقتي مع فرنسا ما بين الجذب والرفض. حتى عام 2006، لم أكن أتخيل أنني سأستقر في فرنسا، كانت لدي محاولات عديدة للعودة إلى فلسطين وبناء حياة هناك في غزة تحديداً. العودة إلى غزة كانت دائماً معرقلة من الناحية الأمنية ومن ناحية عملي كفنان. في عام 2005، قررت العودة وكان لدي يقين تام بأن وجودي في غزة سيكون مفيداً، خصوصاً أن موضوعاتي مرتبطة بالسياق الفلسطيني والغزي بالذات. حاولت أن أبدأ من الصفر، بعد أشهر من وصولي إلى غزة غادرت لإقامة معرض «آباء» في عمّان، وفي الوقت نفسه تم اختطاف جندي الاحتلال «شاليط». تم وقتها إغلاق غزة وبدأ العدوان عليها، لم يكن ممكناً أن أعود. خط الخروج الوحيد من عمَان التي لا أملك إقامة فيها كان وقتها باريس. بقيت أشهراً عدة في باريس أراقب الأوضاع في فلسطين بشيء من الأمل المتعلق بعودتي. وفي يوم من الأيام، أخبرتني رفيقتي التي ربطتني بها قصة حب والتي هي زوجتي الآن، بأنها حامل. كان هناك طفل سيخرج إلى العالم وأصبح لدي عائلة. وبهذا تعقدت كل أفكاري بالعودة إلى غزة. فرنسا لها مكانة في نفسي، هي البلد الذي احتضنني صحيح، لكنني ما زلت أشعر أنني غريب بالرغم من مرور عقدين أو ثلاثة، وبالرغم من أنني أحمل الجنسية الفرنسية منذ سنوات طويلة، أقدر الثقافة واللغة التي أستخدمها أكثر من العربية. لكن بالرغم من ذلك، لا أشعر أنني في وطني، الحيز الوحيد الذي أشعر فيه بالوطن هو الاستوديو الذي أعمل فيه، وبالتحديد أكثر اللحظة التي أكون فيها منخرطاً في إنجاز عمل جديد، الوطن الحقيقي بعيد المنال، نعم حياتي فرنسية، زوجتي وأولادي، لكنني لا أشعر بأنني فرنسي.

العام الماضي حصلت على «وسام الفنون» من وزارة الثقافة الفرنسية، ماذا يعني لك هذا الأمر؟
- عنى لي كثيراً. فرنسا أعطت الفرصة لأعمالي أن تنتشر وتُعرف، مجموعة لا بأس بها من أعمالي اقتنتها بعض المتاحف والمجموعات الفنية المهمة هنا. معرضي الشخصي في مدينة «آرل» الذي ضم مجموعة كبيرة من أعمالي وأتاحها للجمهور، وبعدها وسام الفنون... كل ذلك أثر بي وكان بمثابة اعتراف فني بي كجزء من الثقافة والفن في فرنسا. هذا مهم جداً كي يتفاعل الإنسان مع المكان ويشعر بشيء من الرضى والاستقرار.
الفنّ يوسّع الآفاق ويطرح الأسئلة ويزعزع المسلمات ويخلق الوعي، وهذه أمور مهمة في الحديث عن المقاومة


من ينظر إلى الفن ومن يتفاعل معه؟ بعضهم يتحدث عن لا جدوى الفنون البصرية، تلك التي تبقى حبيسة مخازن، أو «غاليريهات» أو بيوت خمس نجوم؟
- كثير من الفنانين بدأوا بالتمرد على فكرة المتحف والمتحفية، هذه المحاولات موجودة لفنانين يسعون دائماً للخروج إلى الناس، ولكن كي نكون واقعيين أكثر، فإن هذا يبقى أمراً نسبياً. سوق الفن موجود والفنان بشكل أو بآخر يبقى له علاقة بهذا السوق، لكسب العيش ومواصلة الإنتاج. لا أتخيل فناناً يرفض أن تباع أعماله، إلا إذا كان وفر عملاً جانبياً، وهذا له إيجابياته وسلبياته، كأن لا تكون تحت رحمة السوق، لكن من ناحية أخرى، العمل الجانبي في الغالب يأتي على حساب الإنتاج الفني.

الفنانون البصريون فشلوا في تحويل أعمالهم إلى أعمال متاحة للجميع؟
- ليس تماماً، ولم ينجحوا أيضاً، أتفق مع ذلك. في ستينيات القرن الماضي وحتى أواخر الثمانينيات، كانت هناك محاولات وموجات لتمرد الفنون وخروجها من أطرها التقليدية التي لطالما حبستها ضمن طبقة اجتماعية أو ثقافية ما، وكانت هناك حركات نشطة في هذا الخصوص. وقتها كان اليسار حاضراً، والأفكار الثورية حية ونابضة وتبعث على الأمل، هذا قبل أن تختفي كل أحلام اليسار، ليدخل الفنانون في «النظام العالمي». كان هناك أمل في تغيير العالم، وتعويل كبير على الفنون، الآن الأوضاع تغيرت.

ماذا يبقى من قيمة الفن عندما تتم رأسملته؟
- للأسف، تحوّل الفن إلى سلعة كباقي السلع، هذا الجزء المظلم الذي لا أتردد بالاعتراف به، وهنا تبرز أهمية عدم الخضوع لمفهوم «سوق الفن» من قبل الفنان، كأن لا يكون الإنتاج بهدف البيع فقط أو لحاقاً بالموضة الرائجة. وهناك الكثير من الأسماء الفنية المعروفة عالمياً تعمل وتفكر بهذه الطريقة؛ بوعي أو بدون وعي أحياناً. على الفنان أن يتوقف عند كل عمل وأن يراجع ويسائل نفسه عن الطريق الذي يسلكه وأعماله التي ينتجها ودوافعها. الفنان الحقيقي لا يمكن أن يعفي نفسه من هذه الأسئلة (ماذا ينتج، ولمن ينتج، ولماذا ينتج). من ناحية أخرى، السوق تحتل مكانة كبيرة، بعض الفنانين يعتبرون أن الاعتراف الفني عالمياً مرتبط بكم البيع أو سعر الأعمال. وهذا للأسف مفهوم خاطئ في ما يتعلق بالقيمة الفنية للعمل. الآن نسمع عن أعمال تباع بعشرات الملايين لفنانين ما زالوا على قيد الحياة. وأنا شخصياً لا أقتنع بكثير من أعمال أولئك الفنانين. عملي كان منذ البداية وما زال مرتبطاً بشكل كبير بالمؤسسات (متاحف، مراكز فن، مؤسسات ثقافية، مهرجانات)، قبل العمل مع صالات عرض تجارية (غاليريهات). هذا ضروري جداً، لأن العمل ضمن هذا السياق، أتاح مجالاً أوسع من حيث الرؤية والاعتراف، وهامشاً أكبر وأكثر حرية، من حيث التجريب والتجديد والاستمرارية، بعيداً عن إملاءات السوق وتقلباته.

أكواريل على ورق (2016)

حتى الآن لم يكن لديك معرض فردي في فلسطين، لماذا؟
- لا للأسف، وأريد أن أهمس في آذان أشقائي، بأنني أشعر بنوع من التجاهل تجاه تجربتي، لدينا مثل شعبي يقول «الغايب مالو نايب» بمعنى إن لم تكن موجوداً جسدياً، فهناك ميل لنسيانك، وهذا محزن، كي أكون دقيقاً ومنصفاً أكثر، هناك نوع من الاهتمام بأعمالي. طوال السنوات الماضية، تمت الاستعانة بتجربتي وخبرتي في مجالات تتعلق بالتحكيم الفني والتواجد عن بعد ضمن لجان وورشات فنية، ولكن يبقى لدي هذا الشعور بالتجاهل. يتم الاحتفاء بتجربتي في العديد من البلدان حول العالم، ولكن للأسف في أوطاننا هناك نوع من التناسي أو التجاهل، أو ربما الكسل في التعامل مع تجربتي وإعطائها حقها الكافي وهنا أتكلم على صعيد المؤسسات.

على ماذا تعمل حالياً، هل هناك مجموعة جديدة؟ وما هو المشروع الحلم لتيسير البطنيجي؟
- هناك دائماً أفكار، بعضها ينتظر الوقت الملائم، بعضها نائم، وبالتأكيد هناك مشاريع كثيرة أحلم بتنفيذها، أهمها مشروع فني أطمح إلى تنفيذه في غزة، لا أرغب بالحديث عنه الآن، لأن الإمكانيات والظروف حالياً لا تساعد. غزة كانت دائماً ملهمة لي، بعيداً عن الوضع المأساوي الذي تعيشه، حاولت دائماً تصوير الحياة والناس هناك، والاحتفاء بالمشاهد اليومية بعيداً عن المأساة. أمنيتي أن تتغير الظروف، وتتاح لي إمكانية الدخول إلى غزة والخروج منها بدون عراقيل ومعوقات.

* «الرمل يأتي من النافذة»: حتى 11 آب (أغسطس) ـ «مركز مينا للصورة» (مرفأ بيروت) ـ للاستعلام: 81/281670