سجد- صيف ١٩٨٣خمس طاولات لورق الشدة انتصبت على سطيحة البيت في ذلك الصيف من عام ١٩٨٣. كان أبي يشارك محمود كامل، لأن أبا علي لا يرحم إذا أخطأ شريكه باحتساب الورق، وأبي كان يشغل دماغه كالآلة الحاسبة. «طحشة» على مدخل البيت والليل أوشك أن ينتصف، لم يعرها الساهرون انتباهاً. وحدها جدتي أم مهدي، التي تنام عينها ولا ينام قلبها، وضعت منديلها على رأسها وتقدمت نحو بوابة البيت من الغرفة الجانبية. «ولا كلمة، جيش دفاع إسرائيلي»، كان المنظر مهولاً، شاحنة عسكرية بأكثر من عشرين جندياً و ملّالتان وسيارة الفولفو البرتقالية لضابط المخابرات «الأبرص» القادم من مرجعيون. أمر الأبرص أحد جنوده أن يكمم فم جدتي بيده ليدخل مع البقية في الممر المزنر بورد الجوري ليقف بعديده وعتاده أمام طاولات الساهرين.
«من صاحب البيت؟» رفع أبي عينيه عن «أس الكبة» الأحمر الجميل ليحدق في الضابط البشع الذي يشبه «دوّة الديناري».
-أنا صاحب البيت، ماذا تريد؟
-أريد علي ناصر الدين.
-معظم الساهرين هنا اسمهم علي ناصر الدين.
- ما تعمل حالك أهبل، أنت بتعرف عن مين عم نحكي.
كان علي جارنا مباشرة في البيت المقابل، قد أذاقهم ورفاقه «زوم الزيتون» في أعالي جبل الريحان. أمر الأبرص أبي أن يتقدم، واضعاً فوهة البندقية في ظهره، ليمشي أمامه إلى بيت «الحاج أسعد». سأله الأبرص «وين بيناموا الشباب؟» أجابه أبي «في الأسفل قرب أبيهم». كان يعرف تمام المعرفة أنهم ينامون في الأعلى في معمل «النباريش»، ويتركون الباب الخلفي من ناحية الغرب مفتوحاً، إذ بقفزة واحدة يصبحون في «الجل» ومنه إلى الجبل الرفيع، حيث لا الأبرص ولا الجن الأزرق يمكنه أن يتتبع أثرهم هناك.
- اطرق الباب لإيقاظ الحاج أسعد. هكذا قال الأبرص لأبي.
- يا حاج أسعد يا حاج أسعد، قم جاء اليهود. صرخ أبي بأعلى صوته.
ضرب الأبرص أبي بفوهة البندقية، «لم آمرك أن توقظه هكذا».
عندها أعاد أبي الصراخ:
«يا حاج أسعد جاء جيش الدفاع الإسرائيلي».
بغمضة عين، فهم الشباب في الأعلى الرسالة وقفزوا من الباب الخلفي. أمر الأبرص رجاله بتفتيش البيت بعد فوات الأوان، وانتهت المهمة باعتقال الحاج أسعد الذي وضعوه بالملالة في ثياب النوم، ثم أرجعوه بعدما تعطلت الملالة قرب مرج الخوخة، أخبرني أحدهم وكنا صغاراً أنه دعا عليها بتعويذة مفعولها كصاروخ الكورنيت. عاد أبي ليسحب أوراق الشدة عن الطاولة، ويغمز محمود كامل بعينه اليمنى. لقد ربحوا الجولة والحرب.


سجد- خريف ١٩٨٤
جلس محمد ن. يحدق برزمة المال التي بين يديه. أرسلها أبوه من الكويت مع شريط كاسيت فيه بعد السلام أمر مباشر بأن يبني طابقاً ثانياً للبيت قرب «ربعة الجبل». هناك حيث يأتي الضباب عند أول سجد من ناحية الغرب، وحيث يطل محمد على سهل الميدنة في الأسفل: هنا راهنت عمته مناهل مرة أن الساقية التي تتغلغل في الصخر في أعلى الجبل هي ذاتها التي تسري في السهل، راهنوها على قرش عثملي مثقوب ووضعوا تبناً في الساقية ليجدوه يسري في السهل أصفر يلمع فوق الماء. في الناحية الثانية من المسجّل، وضع محمد شريطاً فارغاً: «لاقوا علينا أولاد حرام وسرقوا المصاري يا بيي». كان محمد قد نفذ «الموال» الذي دار في رأسه منذ استلم المال. استعار سيارة البيك آب المخصصة لنقل الماشية من قريبه، ونزل بها إلى منطقة قريبة من قلعة الشقيف. دفع المال لأحد التجار وملأ الشاحنة بالسلاح، أعاد الأغنام إلى الشاحنة وعاد قبل المغيب، لئلا تفاجئه دورية لجيش سعد حداد في آخر السهل. وصل محمد ن. إلى كوع النجاصة فتنفس الصعداء. أشعل سيجارة وتوجه نحو مغارة في أول الجبل الرفيع. أنزل صناديق الأسلحة ورتبها بحسب أحجامها: رف لقذائف الآر-ب-ج وآخر للرمانات وبينهما عشر رشاشات كلاشينكوف وقناصة. كان المطر بدأ يلف سجد من جهاتها الأربع، ومحمد قد أنهكه التعب. ركن الشاحنة أمام البيت، لتقول له الأم: «انظر إلى إطاراتها وقد غاصت في التراب». لعب «الفار» في «عب» محمد. أثر الإطارات فوق الرمل سيكون دليل المخابرات الإسرائيلية إلى المغارة، ماذا لو أفلتت كلمة من فم التاجر؟ «مشّي معي هلق». أمسك أمه من يدها ودخلا المغارة ثانية، أخرجا الأسلحة كلّها إلى مكان لا تصله حتى العفاريت. أراد محمد أن يمازح «أبا يوسف»، الضابط الإسرائيلي الذي عرف محمد بحدسه أنه سيأتي. حشا الأكياس الفارغة بالحجارة والتبن، ووضع في الصناديق الفارغة أغطية معدنية من مرطبات «جلول» كان قد جمعها ليلعب بها «الداما» مع أصدقائه. أعاد أمه إلى البيت وجلس في حضن سنديانة ينتظر. ساعتان وأطلت دورية الاستخبارات تتبع أثر الإطارات فوق التراب. فرك الضابط «أبو يوسف» يديه ليفحص الصناديق المكدسة أمامه. تناثر التبن أمام عينيه، وسقطت أغطية «الجلول» على الأرض. كان محمد ن. قد رسم مربعات لعبة الداما بفوهة الكلاشينكوف خلف «أبو يوسف» تماماً، لقد ربح الجولة والحرب.
نام حسن قرير العين في تلك الليلة، أتته ناديا لطفي في المنام «تتغندر» في حقول البطاطا


سجد- شتاء ١٩٨٤
الليل ثقيل في سجد في الشتاء، تتذكر نورا «أم مهدي» أن أهل القرية في صِغرها كانوا يخزنون «الأورمة» في الجرة في آخر الصيف ويدخلون بيوتهم الطوبية ليقضوا فيها الشتاء بأكمله، ليأتي أهل قرية الريحان المجاورة في أول نيسان ويرفعوا بمعاولهم الثلج عن أبواب البيوت. كانت أيام القبضة الحديدية التي فرضتها إسرائيل على قرى الجنوب اللبناني، ففرغت القرية من الرجال: بعضهم في معتقل أنصار والآخر في «الوعر» أو في بيروت البعيدة. كانت نورا تنام عند جارتها «أم عصام» بطلب من الأخيرة التي تخاف حتى من ظلها. أرادت نورا أن تركّب «مقلباً» تقضي به على الملل الذي كان يثقل على صدرها كمادة لزجة في ذلك الشتاء الطويل. اتفقت مع جارتها الأخرى أم حسين بأن تحملا بخوراً وشمعاً وتجلسا أول الليل في الحقل المقابل لباب أم عصام. «شو القصة؟» أجابتها نورا بأن لها خالاً مدفوناً تحت التراب، اسمه زين العابدين وأنه كان ولياً صالحاً تمسّح بضريح موسى الكاظم والسيدة المعصومة. لم تلقِ أم عصام بالاً لليلة الأدعية تلك ونامت قريرة العين. بعد يومين، يُطرق الباب في منتصف الليل. استفاقت نورا ولم تعرف الطارق لأول وهلة: كانت هيئته أشبه بهيئة أهل الكهف. «أنا محمد علي، افتحي يا حجي أم مهدي وما تعملي شوشرة». كان محمد علي في «فتح» في مطلع شبابه، وهو الآن في المقاومة يكمن للجيش الإسرائيلي عند كل صخرة وتلة في جبل الريحان. «بدي اتحمم، صرلي شهر ما اتحممت». «فوت يا قباري»، وضعت كيسين من الناريت في القازان، استحم محمد علي وخرج قبل مطلع الفجر بعدما قبّل جبينها وبعدما زودته بسرّة كاملة من الطعام له ولرفاقه. في الصباح، سألت نورا أم عصام إن كانت قد استفاقت في الليل. «شفت واحد بالمنام بيشبه الجناني- بسم الله الرحمن الرحيم دق الباب وانت فتحتيلو». ضحكت نورا من قلبها وصرخت: «هيدا خالي زين العابدين، تعي يا أم حسين، سبحان من يحيي العظام وهي رميم». لقد ربِحت الجولة والحرب.



سجد/ النبطية- ربيع ١٩٨٤
كان علي ش. يشعر بثقل الشريط النحاسي الذي يوثق يديه إلى رجليه عند آخر النبطية من جهة مثلث حاروف. كانوا مجموعة من خمسين رجلاً وقد أُلقي القبض عليهم بعد الخروج من صلاة الجمعة التي كان يؤمّها الشيخ راغب حرب أيام «القبضة الحديدية». نزل المقنع من الشاحنة وبدأ يشير بيده: سحبوا الرجل الأول فالرابع إلى من انتقاهم من الطابور إلى الشاحنة ليأخذوهم إلى عتليت أو إلى أنصار. لم يشر المقنع إلى أحمد، نزعوا العصابة عن عينيه وهددوه ألا «يوجّه» ثانية نحو مسجد جبشيت. رمق أحمد بعينيه «الريو» الإسرائيلي حيث يجلس المقنع، كان أحمد قادراً على رصد العنزة الضائعة في سجد في «خلة النبي» وهو واقف عند البِركة. رأى أحمد شيئاً وحيداً: وشم على ظاهر يد المقنع اليسرى «ناديا لطفي». رجع أحمد إلى سجد وأخبر قريبه حسن الذي كان يقود الجهاز الأمني للمقاومة بالأمر. كان العثور على شخص يضع وشماً من كلمتين في كل قرى النبطية أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. خطرت ببال حسن فكرة «جهنمية». كانت الدورية الإسرائيلية قد تم رميها بالقنابل في ساحة عاشوراء، أوعز حسن إلى أصدقائه في النبطية ببث إشاعة مفادها أن الرمانات اليدوية كان قد تم وضعها في صناديق البطاطا، وأن المقاومين كانوا ينحنون على الصناديق متظاهرين بالتبضع ليرموها واحدة تلو أخرى على الدورية.
وعد حسن بائعي الخضار بأن يشتري كل صناديق البطاطا لو عثروا له على عاشق ناديا لطفي المتيّم. كانت الفكرة بسيطة، يقترب البائع من كلّ من يريد أن يشتري البطاطا و«خليني ساعدك يا قبّاري»، ويحدّق في يديه أو يسأله عن الساعة. كاد اليأس أن يستولي على قلب حسن لولا أنه بعد أيام قليلة اقترب أحدهم من أبي ابراهيم الخضرجي، طالباً أن يخرج الصناديق قليلاً نحو الشمس. أراد الرجل أن يتحقق من المسافة التي كانت تفصل الرامي عن الملالة. ناوله أبو ابراهيم الكيس ليبصر الوشم على اليد اليسرى.
نام حسن قرير العين في تلك الليلة، أتته ناديا لطفي في المنام «تتغندر» في حقول البطاطا. لقد ربح الجولة والحرب.