بتريّث ودقة، يجمع أدلته ثم يتجه إلى القضاء لتسليط الضوء على رؤوسٍ أينعت فساداً وحان موعد قطافها، لتكون الضربة القاضية: «كش مَلَك». هكذا يعمل برنامج «استقصاء» على lbci. تحت سقف رصين وجدي، يغوص فريق العمل، بقيادة فراس حاطوم (الصورة في الكادر أدناه)، في مواضيع الفساد. البرنامج الذي يغرّد خارج سرب الزمن، أي لا توقيت عرض محدداً له، يعتمد على العمل الميداني الذي يتطلّب بدوره التحرّر من قيد الوقت و«تكتيكاً» متريثاً. قدمت «المؤسسة اللبنانية للإرسال» حتى الآن حلقتين فصل بينهما شهران من العمل الدؤوب والدقيق.
يرى حاطوم أنّ «العمل الميداني يتطلب وقتاً كبيراً لإتمامه»، مؤكداً أن «هدف البرنامج هو التألق البعيد الأمد في عالم الصحافة الاستقصائية وكشف الفساد، لا تجميع حلقات فارغة المضمون أسبوعياً».
أما عن مواضيع «استقصاء»، فتحمل بعداً إنسانياً غير مستهلك. تناولت الحلقة الأولى الجمعيات التي «تدّعي جمع التبرعات لحساب المعوقين». الجمعية التي لاحقها البرنامج هي «حقهم في الحياة» التي «تدعي جمع التبرعات لمساعدة ذوي الحاجات الخاصة، لكنها تتقاسم مع أعضائها المبالغ التي يُتبرَّع بها»، وقد صار الملف اليوم في عهدة القضاء. أما الحلقة الثانية التي ما زالت قضيتها تتفاعل، فتناولت راهبة وطبيبين متورطين في عمليات بيع أطفال.
وعن اختيار موضوعات دون أخرى، يشير مقدم البرنامج إلى الفرق بين من «يخالف القانون» ومن «يضر بالمصلحة العامة»، مشدداً على أن فريق العمل ينتقي «تحديداً الأشخاص والحالات المضرة بالمصلحة العامة».
اللافت هنا هو ابتعاد حاطوم عن «شخصنة» البرنامج، واضعاً فريق العمل الجريء تحت مجهر الضوء والمسؤولية معاً، بدءاً من «الجينيريك» التي تبدأ بأسماء المعدين أولاً، وصولاً إلى الأسلوب التشاوري الذي يظهر بين فريق العمل خلال الحلقات.
وفي سابقة تفرّد بها «استقصاء»، كان فريق الإعداد ينتهي من جمع معلومات كل ملف، ثم يتقدّم ببلاغ رسمي للسلطات المختصة ويتابع التحقيقات والإجراءات المتخذة حتى خواتيمها. لا يكتفي البرنامج بالنشر على مبدأ «الإخبار الرسمي»، بل يذهب أبعد نحو متابعة ما «بعد الموضوع»، ما يضع السلطات القضائية تحت إمرة المصلحة العامة ويحثها على التحرك الفوري.
انطلاقة البرنامج لم تخلُ من الأسئلة التي تمحورت حول ما سُمي «التشهير» الذي يظهر خلال الحلقتين. يعمد «استقصاء» إلى إظهار أسماء وصور صريحة وواضحة للأشخاص «المتهمين» من دون أي تمويهٍ أو اختصار للاسم أو الكنية.
وعن ردّ فعله تجاه أي قضية قدح وذم قد يواجهها جراء ما يعرضه، يجيب حاطوم: «أنا أوافق على التعاطي مع شكوى مماثلة ضدي بجدية، شرط أن يحظى ملف الفساد الأساسي بالجدية نفسها». ويرفض هنا إدراج كشف وجوه الأشخاص من دون تمويه تحت خانة «التشهير»؛ لأنّ «مضمون الحلقات لا يتضمن اتهامات شخصية بقدر ما يعرض المعلومات التي توصل إليها فريق الإعداد. كذلك فإنّ هذا الأمر ليس جديداً في الصحافة الاستقصائية، بل إنه متعارف عليه دولياً، بحيث تكشف الوجوه عند الحديث عن قضية حساسة».
وفيما أخذ هذا النقاش حيزاً لا يستهان به من نقاش الأوساط الإعلامية والقانونية، لا ينكر حاطوم «الثمن المعنوي» الذي يدفعه المتورطون الذين يظهرون على التلفزيون، لكنّه يرى أنّ «ضميرنا يحتّم علينا كشف الإساءات التي يمارسها هؤلاء بحق المصلحة العامة، ويجبرنا على عرض جميع المعلومات بلا تحفظ».
رغم استحسانه الكبير لما يقوم به فريق «استقصاء»، إلا أن المدرب في الصحافة الاستقصائية داوود إبراهيم يتوقف عند ما يسميه «الطريقة التي يعمل بها البرنامج؛ فالهدف لا يجب أن يكون تشهيرياً، بقدر ما يجب أن يضيء على الخلل».
يرى إبراهيم أن «إظهار الأشخاص بأشكالهم وأسمائهم الصريحة يخرج الموضوع عن صلبه ويضع علامات استفهام كثيرة حول علاقة هذا الشخص لاحقاً بمجتمعه، بل حتى علاقة أسرته بالمجتمع حوله». ويشير إلى تحول الأمور عندئذٍ من حالة «شخص فاسد» إلى حالة «عائلة ناقمة»، مؤكداً أن «محاربة الفساد بهذه الطريقة قد تنتج منها ارتدادات أسوأ».
ويطرح إبراهيم سؤالاً عن دور الصحافي، فيقول: «هل هو الرقابة والتصويب، فيما تقوم الأجهزة القضائية بدورها؟ أم أنّ دوره هو إصدار الأحكام والإدانة المباشرة؟». ويتابع: «إن مهمة الصحافي الاستقصائي تكمن في جمع الأدلة والمعطيات والإثباتات، ثم ترك الموضوع للأجهزة المعنية».
في المقابل، يعود إبراهيم ليؤكد تميّز برنامج «استقصاء» بـ«الحكاية والربط والتسلسل المنطقي لسرد وعرض التحقيق بطريقة مشوّقة ومرنة». ويشير إلى نوعين من العرض في الصحافة الاستقصائية: إما عرض التسلسل الزمني للقصة، أو عرض مسرح الأحداث. ويتابع: «يتميز «استقصاء» بالخطوات المتسلسلة والمترابطة والغنية بالمعلومات بطريقة تجذب المشاهد وتوصله إلى الخلاصة». وينوه بتوجه فريق العمل إلى القضاء قائلاً: «لم يكتفِ بالنشر، بل ذهب للمتابعة في ما «بعد الموضوع»، هذا يتعدى مهمات الصحافة الاستقصائية، لكنه قد يكون «اجتهاداً» منه، لكنّه يشكر عليه».

* الحلقة الثالثة من «استقصاء» في الأسبوع الأول من آذار (مارس) على lbci



نظرة قانونية | متأخرون دوماً


يشرح المحامي إيلي خطار مكانة العمل الاستقصائي في القوانين اللبنانية، فيشير إلى المادة 14 من الدستور التي تنصّ على أنّ «المنزل حرمة ولا يسوغ لأحد الدخول إليه إلا في الأحوال والطرق المبيّنة في القانون»، في إشارة إلى مخالفة قد تحصل عند دخول أي مكان بانتحال صفة مغايرة للحقيقة.
كذلك، يركز خطار على المواد 581، 582، و583 من قانون العقوبات اللبناني التي تعاقب على «الإطلاع بالخدعة على مخابرات هاتفية»، أو على «الذم بأحد الناس» أو حتى على «تبرير فعل الذم بمحاولة إثبات الحقيقة»، مشيراً إلى أن «الإظهار الصريح للمتهمين المفترضين هو بمثابة ما اعتبره قتلاً معنوياً لهم». يعرّف خطار مفهوم الصحافة في قانون المطبوعات وقانون المرئي والمسموع، ويوضح أنّ مفهوم «الاستقصاء» لا ينطبق مع القوانين اللبنانية في ما خص الصحافة، فمهمة الصحافي هي «نقل الخبر لا خلقه». ويشير أيضاً إلى ميثاق الشرف الصحافي الصادر بتاريخ 4/2/1974 الذي «يشكل رادعاً أخلاقياً للحؤول دون إساءة استعمال حرية الصحافة من قبل الصحافيين».
فيما تتطور المجتمعات بتركيباتها الأيديولوجية والديموغرافية، ومعها تتطور المفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وغيرها، لا تزال القوانين اللبنانية ترابض مكانها منذ عشرات السنين، مخلّفةً ثُغَراً هائلة في جدار التقدم. وفيما تهرول الصحافة بمفاهيمها الجديدة إلى كشف الفساد، تصطدم عندنا بحائط القوانين اللبنانية المهترئ، فتقف بذلك جميع خطط إنماء وإعمار مجتمع المحاسبة والمساءلة، لتبقى المصلحة العامة رهينة الفساد والقانون على حدّ سواء.



سيرة

تخرّج فراس حاطوم، من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية عام 2005. بدأ عمله الإعلامي في الرصد الفضائي في قناة «الجديد» عام 2003، لينتقل بعدها إلى العمل التحريري عام 2004. في العام 2005 دخل معترك التحقيقات السياسية، ليأتي تحقيقه عن «الشاهد الملك» محمد زهير الصديق في العام 2006 متوجّاً للعمل الاستقصائي الذي كان هو من أوائل الذين أدخلوه مصطلحاً وتطبيقاً في العمل الإعلامي اللبناني. تابع حاطوم قضية شاهد الزور في قضية اغتيال الحريري زهير الصدّيق في كل خطوة، حتى دخل السجن بسببها قبل سنوات (2006_ شباط 2007). إستقال من رئاسة قسم التحقيقات في «الجديد» عام 2013، ليتجه إلى برنامج «استقصاء» الذي يعرض على قناة lbci.



يمكنكم متابعة فاطمة شقير عبر تويتر | @fatima_shoukeir