عكا | «على هذه الأرض سيدة الأرض/ أم البدايات أم النهايات/ كانت تسمى فلسطين». قد تختصر أبيات محمود درويش ثنائية العلاقة بين الوطن والمرأة في الثقافة الفلسطينية التي قد تبلغ أحياناً درجة «الكيتش». لطالما حوى الشعر والنثر الفلسطينيان تلك الموازاة أو الصهر بين الوطن والمرأة، بين الأرض والأم. ولا شك في أنّ لهذه التصورات بالغ التأثير في التعبير المرئي كالرسم أو الكاريكاتور، وبالطبع على السينما وعلى السياق الروائي الذي تشكلت فيه شخصية المرأة الفلسطينية.
في التصورات السينمائية الروائية الأولى («عرس الجليل» لميشيل خليفي)، بدت المرأة محرّكةً للطقوس في مساحة نوستالجية «نكبوية»، ألا وهي القرية، حيث تقع تحت وطأة سلطتين متداخلتين: ذكورية واستعمارية وسط هالة من القدسية، قد تعتبرها نسويات كثيرات اليوم تكريساً للفكر الذكوري في المجتمعات العربية، ولا سيما القابعة تحت الاحتلال.
لا ينفي القول أعلاه أنّ مخرجين آخرين قد آثروا في تجاربهم الخروج إلى حيّز مختلف والابتعاد عن أيقنة المرأة الفلسطينية في القرية وما يلتصق بهذه الأيقنة من صوابين وأشجار زيتون وموقد طابون، إلا أنّ التجارب النسائية الفلسطينية في الإخراج، تشكل حالياً إحدى أهم مراحل التطور والتغيير الذي وصلته السينما الفلسطينية في هذا المضمار. بعدما ساد شبه احتكار ذكوري لحلبة الإخراج الروائي الطويل في فلسطين، بدأت العديد من المخرجات في العقد الأخير بالإسهام في أرشيف الأفلام الروائية الطويلة منهن شيرين دعيبس («أمريكا»، «مي في الصيف»)، ونجوى نجار (المر والرمان)، آن ماري جاسر («ملح هذا البحر»، «لما شفتك»)، هيام عباس (الميراث). تتسم أفلام هؤلاء المخرجات بوضع المرأة في مركز الأحداث، وعدم التعامل معها كغرض مكمّل للمشهد الذكوري. وكما فككت الناقدة السينمائية البريطانية لاورا مالفي ذاك التداخل بين «نظرة» المشاهد الذكوري و«نظرة» المخرج الذكوري، تحاول مخرجاتنا تفكيك التركيبة شبه المعتادة في العديد من الأفلام الفلسطينية التي تمنح فيها المرأة تبجيلاً من خلال رومانسيات الصور الرمزية، وعلى منحى مواز، تُهمَّش في سياق الأحداث.
بعد تجارب عديدة مثل «ملح هذا البحر» الذي يتمحور حول بطلته العائدة الى فلسطين من الشتات حيث تواجه واقع الاحتلال، أو «أمريكا» الذي يعرض قصة امرأة (نسرين فاعور) تكافح بعصامية من أجل تربية ابنها بعدما أودت بها الظروف إلى الهجرة هرباً من الاحتلال، نرى الحيز الواسع الذي لم تكن لتملأه الشخصيات النسائية قبلاً. استمرت المخرجات على هذا النسق في أفلام مثل «المر والرمان» و«الميراث» التي ركّزت على الشخصيات النسائية، مانحةً إياهن المساحة الكبرى في القصة.
لكن من الضروري التمييز بين كون السينما نسائية أو نسوية. الأولى التي تعود إلى جنس صاحبة العمل أو المشاركات فيه، ليست بالضرورة نسوية تقدمية. قد تكون أحياناً أشد ضراوة على النساء من أفلام المخرجين الرجال. عربياً، تعدّ أفلام إيناس الدغيدي أبهى مثال على ذلك («دانتيلا»، «ما تيجي نرقص»). وهناك النوع الثاني النسوي الذي تطمح إليه الحركات النسوية التقدمية، ليس بالضرورة أن يكون صناعة نسائية. لو أخذنا شريط يسري نصر الله «احكي يا شهرزاد» مثالاً، لوجدناه تقدمياً وأكثر نسوية في الطرح والمعالجة من «سكر بنات» لمخرجته نادين لبكي. حاولت الأخيرة أن يكون شريطها نسوياً، إلا أنّها لم تنجح في ذلك، فاختارت صالون التجميل وصباغة الشعر (بما لهذه الصناعة من إسقاطات ذكورية) ليكون المكان الآمن والحاضن لفتياتها.
بخلاف هذه التجارب العربية، تختلف الحسابات عند فحص صورة المرأة في الشريط الفلسطيني، إذ يشكل الاحتلال سبباً لتأخّر ظهور المرأة المخرجة. السيرورة الفلسطينية سينمائياً مختلفة تماماً عن قريناتها. التجربة المصرية التي عرفت في الثمانينيات ما سمي «سينما المرأة»، لم تفض إلى تغيير حقيقي في طرح قضايا المرأة سينمائياً، إلا في حالات قليلة («عفواً أيها القانون» لإيناس الدغيدي). وفي بداية الألفية، تولت السينمائيات الفلسطينيات زمام الإخراج. استكمالاً لهذه المسيرة، يستقبل هذا العام شريطين لمخرجتين فلسطينيتين: تطرح نجوى نجار (المر والرمان) شريطها الروائي الطويل الثاني «عيون الحرامية» الذي تدور أحداثه حول أب (خالد أبو النجا) يبحث عن ابنته التي فقدها منذ عشر سنوات، لتتوالى الأحداث الدرامية متناولةً واقع العلاقات الإنسانية تحت الاحتلال. وتقدم المخرجة سهى عراف (نساء حماس) أولى تجاربها الروائية الطويلة «فيلا توما» الذي يدور حول ثلاث أخوات فلسطينيات مسيحيات فاتهنّ قطار الزواج، يستقبلن ابنة أخيهم المراهقة في منزلهن الكئيب، وسط تفاعلات درامية، وكوميدية في بعض الأحيان. تطرح مخرجتنا هنا جانباً من الجوانب الحياتية لمسيحيي الضفة الغربية، وبالذات قضيتي القهر البورجوازي للأجيال الشابة والزواج المتأخر للنساء. بينما لا يشير الفيلم الأول من خلال حبكته إلى البعد النسائي فيه (قد نتوقعه مسبقاً لكون مخرجته امرأة)، يظهر جلياً في فيلم سهى عراف، وخصوصاً أنّ بطلات الفيلم نساء: نسرين فاعور، علا طبري، شيرين دعيبس والممثلة الشابة ماريا زريق.
وسط ترقب لهذين الشريطين اللذين سيزيدان رصيد الأفلام الفلسطينية التي باتت الأهم عربياً في المحافل الدولية، في مفارقة شديدة لما للاحتلال من «إسهام» في تطور وتميز المبدعين والمبدعات الفلسطينيات، يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستشكل أفلام المخرجات موجة جديدة في السينما الفلسطينية؟ وهل ستستطيع مخرجاتنا تشكيل صنف سينمائي ذي خاصيات مشتركة تحكي لنا من جديد قصة المرأة الفلسطينية كما لم نعهدها من قبل؟