كان عددهم لا يتجاوز الخمسين شخصاً، أولئك الذين رافقوا جثمان طيب تيزيني (1934ـــــ 2019) أول من أمس، إلى مثواه الأخير في مقبرة تل النصر في حمص، فيما توافد الآلاف إلى مجلس عزاء افتراضي ينعون رحيل الفيلسوف والمفكر السوري. مشهدان متناقضان يلخّصان أحوال خريطة البلاد الممزّقة. لكنّ الطرفين اتفقا على أهمية الرجل وحضوره في الوجدان السوري والعربي لجهة جرأته في طرح أفكاره التنويرية، ومساهمته في نبذ العنف الأهلي لأنه يؤسس للحظة الدم.
خلال تشييعه أول من أمس في حمص

لم يلتفت أحد إلى حكمته وصوابية رأيه في إيقاف الكارثة، فانكفأ في سنواته الأخيرة إلى عزلة خصصها لكتابة سيرته الذاتية، كما انزلق في بعض مقالاته الصحافية المهاجرة إلى آراء ملتبسة لا تخلو من فخاخ أيديولوجية ومذهبية. كان آخر مشهد أطل به طيب تيزيني مؤثراً حقاً، أثناء مشاركته في ندوة دولية استضافتها مدينة طنجة المغربية عن «المجتمع، السلطة، والدولة، في مطلع القرن 21 مغرباً ومشرقاً» (2015)، حين لم يستطع أن يكبح دموعه خلال وجوده على المنصة وهو يستحضر صورة الخراب الذي آلت إليه بلاده. عاد إلى حمص كي يُدفن فيها، نابذاً هواء المدن الأخرى، والأذرع المفتوحة والملغومة لاستقطابه خارجاً. هذا مفكر لديه مشروعه التنويري الذي أسس له على مراحل بانعطافات فكرية متتالية، انطلاقاً من مدرجات قسم الفلسفة في جامعة دمشق إلى الفضاء العام، فكان كتابه «من التراث إلى الثورة: حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي» (1976) عتبة مفصلية في محاورة الراهن بمنظور ماركسي، نافياً عن التراث صفة الانغلاق وإنما بوصفه فكراً يمكن إخضاعه للمنهج المادي الجدلي وكجزء من سيرورة الفكر الإنساني، وتالياً رفض فكرة المركزية الأوروبية التي تنطوي على تحنيط هذا الفكر بقوالب جامدة، وتجريده من خصائصه المعرفية. وسوف يوسّع فتحة الفرجار بالاشتباك مع أسئلة أكثر إلحاحاً، تلك التي تتعلّق بمنظومة «الفساد والإفساد» داعياً إلى «تأسيس بنية جديدة ومتكاملة، بدلاً من البنى الرثّة المتآكلة التي أوصلت مشاريع النهضة العربية إلى فراغ تاريخي، وطفرة عولمية، وطريق مسدودة»، ومؤكداً أن «الكرامة قبل الخبز». هكذا لفت بعناية وعمق إلى أن المعضلة الأساسية التي تواجهها حركة النهوض العربية في حقبتها الثانية، تتمثّل في المسألة الاقتصادية التي تقوم على رافعة خراج مافيوي، ومجتمعات قبل صناعية مفككة، وإيديولوجيات دينية، وأخرى سلعية، أتت بالتساوق مع تفكك الطبقة الوسطى وتصدّعها.
وسوف ينبه في أطروحاته اللاحقة إلى مخاطر «الاستبداد الرباعي» متمثلاً في «الاستفراد بالسلطة، وبالثروة، وبالحقيقة، وبالرأي العام». ففي كتابه الأخير «استكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة»، يميط اللثام أولاً، عن أسباب اندحار وانتكاس وفشل المثقف العربي في المساهمة في عملية التغيير. حتى إن عبارة «شرف المثقف» باتت عملة نادرة في سوق النخاسة الثقافية التي تقوم على المعادلة التالية «إما انصياعك كليّاً وإما تجفيف كل شيء في حياتك». ويعيد عجز المثقف إلى غياب ثلاثة عناصر أساسية تتحكم بحضوره، هي «الحرية، والكرامة، والكفاية المادية». وهذا ما انعكس على عمل المؤسسات الفكرية والأكاديمية وتقهقرها معرفياً، ثم يشتغل على تفكيك مجموعة من الأسئلة الراهنة التي تتعلّق بثنائيات العلمانية والدين، والعدل والحرية، والعقل والضمير، لافتاً إلى ظهور منظومة قيم جديدة بدلاً من منظومة القيم الأخلاقية البناءة، مؤسَسةً على «الفساد والدعارة، والطائفية واللصوصية، والمخدرات، ونهب الثروة، والسلطة، واحتقار الآخر» وذلك بتأثير قيم العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات التي أطاحت ما عداها لجهة إحياء الهويات ما قبل الوطنية. أمر أحدث شرخاً في تاريخ الشعوب وتراثها بقصد تفتيته لمصلحة «أطلس استراتيجي جديد» ما فوق قومي، ينهض على ثقافة السوق وحدها.



تحديات وضعت المثقف العربي، وفقاً لما يقوله تيزيني، في حالة انعدام الوزن، ببروز هوية وطنية مفكَّكة، مرشّحة للقضم والابتلاع كمحصلة للاستبداد السياسي والعقم المعرفي والغيبوبة الفكرية.
رحلة طويلة لا تخلو من مكابدات وتناقضات، قادت طيب تيزيني ــــ المولود في حمص لأبٍ قاضٍ ورجل دين عقلاني ــــ إلى تركيا، ثم إلى بريطانيا بقصد دراسة أدب شكسبير، قبل أن يتوجه إلى ألمانيا لدراسة الفلسفة الألمانية، مغلقاً الدائرة عند الفلسفة العربية. وستكون حصيلة اهتماماته الأولى أطروحة بالألمانية تحت عنوان «الفلسفة العربية بين الاستشراق والحقائق المغيّبة». مسالك أخرى سيخوض شعابها في قوسٍ مفتوح من الفكر القومي إلى الماركسية وصولاً إلى التصوّف، إذ أشار مرّة إلى أن عبارة «مدد.. مدد» التي يرددها الصوفيون في أذكارهم ما هي إلا طاقة للفرج. الفرج من الانسداد التاريخي الذي أفرزته «الدولة الأمنية» بركائزها المتينة وبنيتها العميقة، ما أدى لاحقاً إلى انفجارات واستحقاقات كبرى ومأساة عظيمة. كأن هذا الانهماك في أسئلة الفكر السياسي ومخاطبة غرائز الشارع، أبعد صاحب «النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة» عن أسئلته الفلسفية الأولى، منخرطاً بالهم العام، لبناء جدار ينقذ «الحطام العربي» من موتٍ محقّق، كما يستجيب لليومي والانفعالي أكثر من تأسيسه للحظة فلسفية، مكرّراً في أطروحاته الأسطوانة ذاتها ما يتعلّق بمرايا الفساد وتجفيف المجتمع من كلّ الرهانات المناهضة لفكرة الاستبداد.
كتابه «من التراث إلى الثورة» (1976) عتبة مفصلية في محاورة الراهن بمنظور ماركسي

وإذا بثلاثية الفساد تنطوي على عجلة رابعة تعمل على «تهشيم القوانين وإفساد النخب»، معوّلاً على المجتمع المدني في مواجهة «العقم المعرفي»، والانخراط في «المجتمع المعرفي العالمي» من جهة، وعلى «الإسلام المتسامح والتنويري» بديلاً عن «الإسلام الرّث» المغرق بالفتاوى السلفية، من جهةٍ أخرى، من دون أن يهمل سؤال العولمة الذي طوى سؤال النهضة لمصلحة جموح الجغرافيات الأخرى. لقد دقّ هذا المفكّر الشجاع جدار الخزّان مراراً، من دون أن ينصت إليه أحد، أو هكذا نظنّ. ذلك أن وليمة الموت لم تتوقّف طوال سنوات الحرب، إلى أن طوته أخيراً، فخسر السوريون والعرب رجلاً حرّاً ومتمرّداً لطالما أشار إلى موقع المفاتيح للأبواب المغلقة، ومفصحاً عن أكثر مقولاته حضوراً «مدانون تحت الطلب»، في إشارة إلى الفساد والإفساد، أخطبوط الاحتضار والاختناق الداخلي بأذرعه الطويلة التي أفسدت الجميع: «حين يُدمّر الداخل، تكثر الغربان وتصبح البلاد قابلة للاستباحة» يقول. وفي رؤية أخرى كان يردّد «لا شك في أن سورية عائدة، ستعود حتى لو ذهبنا نحن. سيكون هناك من يقوم بالعمل، فالمشروع مفتوح». رحل طيب تيزيني الماركسي، النهضوي، الإصلاحي، الصوفي، تاركاً وراءه إرثاً غنياً لا ينبغي إهماله أو نسيانه. على الأرجح، فإن سيرته الذاتية التي كان يعكف على كتابتها قبل غيابه، ستضيء مصابيح أخرى أكثر إشعاعاً في مسيرته الوعرة نحو حلمٍ مختلف.