تدوين سير أعلام الفنّ العربي غير شائع في بلاد العرب، ما يجعل من أي مبادرة في هذا الصدد تلقى الثناء، لدورها في تكريم أصحاب هذه السير، وحفظ الذاكرة الفنيَّة من الاندثار، ووقايتها من مراجع مبتورة شائعة كـ «ويكيبيديا» ذات المعلومات المحدودة التي تحتاج إلى إعادة التدقيق فيها. كتاب «صباح فخري ــــ سيرة وتراث» الصادر عن «هاشيت أنطوان» أخيراً، يضطلع بهذه الأدوار، ويأتي نتاج حوار أجرته الكاتبة شذا نصَّار مع فخري، استمر على مدى ثلاث سنوات.

يغوص الكتاب في دقائق حياة صباح الدين أبو قوس (1933) المولود في حارة الأعجام في حيّ القصيلة في حلب. منذ عمر الشهر، كان «صبوحي» يتمتع بنغمة خاصة في البكاء، وهو تتلمذ على يد والده محمد نجيب، الذي كان «شيخ طريقة» يدرّس تلاوة القرآن والخط العربي والحساب في زاوية في جامع الأطروش، وختم القرآن في سنّ صغيرة، وانخرط باكراً في حلقات الذكر، حيث كان المشايخ يحوِّلون كلمات الأغنيات الشعبية القديمة إلى أناشيد دينية. ومع اشتداد عود الصغير، رافق أخاه الأكبر إلى السهرات التي كان يحييها عمالقة الفن، فقد كانت حلب تُعرف بأنَّها «مدينة الطرب الأصيل». وبعد أن كان يحضر مستمعاً، أمسى مشاركاً في هذه الليالي، يتذوَّق صوته «سميعة» حلب ذائعو الصيت. «السميعة» ذوو الآذان الخبيرة التي لا تخطئ النغم، وتكتشف خامات الصوت وتحسن تصنيفها. دخل صباح الدين مدرسة الحمدانية الحكوميَّة بإصرار من والدته (علية القدسي)، إذ كانت المدارس آنذاك تُعرف بأنَّها «لجماعة الماسونية»، ولا يرتادها سوى أبناء الذوات!
اعتُرف بموهبة الفتى، رسميّاً، عندما سمعه الموسيقي الحلبي وعازف الكمان و«صائد المواهب» أنطوان الياس الشوا المعروف بسامي الشوا. وقد غيَّر الشوا اسم «لقياه» الثمينة إلى محمد صباح، وصحبه إلى الحفلات في المحافظات السورية، حيث قدّم أغنيات الأربعينيات السائدة. كما غنى الصبي الموهوب في سن الثانية عشر أمام رئيس الجمهورية شكري القوتلي في زيارته الأولى إلى حلب، فانطرب لصوته، وأمر مرافقه بمنحه مئة ليرة سورية. ثم طلب القوتلي من الشوا أن يغني صباح مجدداً في القصر الجمهوري في دمشق. لكن الرابط بين صباح والشوا انقطع، حين لم يلبِّ ابن الثالثة عشر طلب العازف الذهاب إلى مصر، بل أذعن إلى تفضيل والدته عرض السياسي فخري البارودي الذي استبقاه في سوريا، وعيّنه في الإذاعة السورية حديثة النشأة (1947)، وضمنَ له تعليمه المدرسي والموسيقي. فقد كان بارودي مؤسس معهد الموسيقى الشرقية في دمشق، وهو منح صباح الدين أبو قوس لقبه الفني، صباح فخري، في إشارة إلى تبنّيه. وفي الإذاعة، تشارك فخري ونجاة الصغيرة التي تصغره سناً في «دويتو»، وغنيا «يا واردة عالعين».

صباح فخري ووردة الجزائرية في مسلسل «الوادي الكبير»

في معهد الموسيقى الشرقية، غذى «الوشّاح الأول» عمر البطش فخري بحب هذا اللون ومدّه بأسرار غنائه، فلم يكتف التلميذ النبيه ذو الرابعة عشر ربيعاً بالموشحات والقدود والإيقاعات الصعبة، بل تعلّم أيضاً التلحين و«رقص السماح» المنبثق من حلب. مسيرة الطفل الفنية عرفت كبوةً مع دخوله المراهقة، حيث غيرت هُرمونات الرجولة طبيعة صوته، ما أدخله في الاكتئاب، فانكفأ، وعمل جابياً لنقابة أصحاب النسيج، فكاتباً في محطَّة للوقود فوكيل معلم، أثناء دراسته في «الكلية الإسلامية» في حلب. ثمَّ، قصد قرية «إرجل» في ريف حلب الجنوبي للتعليم فيها، حين علم أن ليرات الراتب في الأرياف أكثر.
مع اكتمال رجولة الشاب، عاد يغني في حفلات صغيرة في البيوت، أثناء خدمة العلم، وبعدها كرّر السير في طريق الشهرة في نوادي حلب، مركّزاً على الموشحات والأغاني الشعبية، ففي إذاعة حلب الوليدة. في شباط (فبراير) عام 1959، أثناء احتفالات الوحدة، كرَّم أهالي حلب الزعيم جمال عبد الناصر في زيارته الثانية إلى مدينتهم، برفقة الرئيس اليوغوسلافي جوزف تيتو وولي عهد اليمن الأمير البدري، بأن أذّن صباح فخري في الجامع الأموي أثناء تأدية عبد الناصر صلاة الجمعة. ثمَّ ظهر الشاب الموهوب في افتتاح تلفزيون الجمهورية العربية المتحدة في دمشق، وشارك في عدد من البرامج التلفزيونية بعد ذلك في تلفزيون دمشق.

صباح فخري والكاتبة شذا نصّار

وفي محطات السيرة، دعم القوات المسلحة في حرب 1967 بالأذان بصوته في إذاعة حلب «الله أكبر... حي على الجهاد». الأذان الذي كان يُكرر في مواقيت الصلاة الخمس، وبقصيدة وطنية من ألحان إبراهيم جودت.
شكلت استضافة «ظريف لبنان» نجيب حنكش لفخري البداية له في لبنان، تلتها عروض انهالت عليه فيه. وفي الكتاب، إشارات تتكرر إلى التنافس مع نجوم مصر: حين تعرف فخري إلى عبد الوهاب للمرة الأولى في لبنان، سأله الأخير «أمك مصرية؟»، فأجابه فخري بالنفي، مدركاً أن عبد الوهاب أراد أن يعزو تميز صباح الفني لأصول مصرية. أما عبد الحليم الذي حضر حفلة لفخري سنة 1969 في سوريا، فأبدى إعجابه الشديد بصوته، وسأل: «هل سيغني هذا المطرب في مصر؟»، فـ«طُمئن» أنه لن يفعل. كما أن استضافته من التلفزيون المصري في زيارته الأولى إلى القاهرة لم تمر على خير، إذ سُئل: «إحنا عندنا في مصر أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم، إنتو عندكو في سوريا مين؟»، فأجاب سائلته: «عيب، ده سؤال ما يتسئلش». وحين كرر السؤال عليه في المقابلة عينها، أجاب بلباقة: «الشعب السوري يقول صباح فخري ومحمد خيري وكثيرين أمثالنا». وأطرق بعد ذلك بصره عن مصر، ولم يأتها سوى بعد عشرين سنة.
بعد ذلك، قلّلت وردة الجزائرية من أهمية صباح، لعدم تعرفها إليه قبل مشاركتهما سوياً في مسلسل «الوادي الكبير» (1974)، وهو ما حفر عميقاً في نفس محدّث التراث الشرقي، وانعكس في عدم انسجامه أثناء أداء دوره. ولم تعد المياه إلى مجاريها بين البطلين إلا مع نهاية المسلسل الذي لم يعرف شهرة.

صباح فخري مقلداً وساماً من الرئيس حبيب بورقيبة

جال الفنان في أقطار العرب، وكانت كاراكاس الفنزويلية محطته العالمية الأولى تبعتها فرنسا وإنكلترا واليونان وأميركا الشمالية... وبعدما كُرِّم في تونس من الرئيس حبيب بورقيبة، وفي عمان من السلطان قابوس، طلب فخري إلى الرئيس السوري بشار الأسد أن يكرم في بلده ومن رئيسه، فكان له ما أراد سنة 2007.
تزوج فخري مرتين: زوجته الأولى علية الإدلبي كانت طليقة أخيه بعد الفالج الذي أعاق حركته، فربى أولاد أخيه الثلاثة ورُزق بثلاثة أبناء منها، وانطفأت بعدما أصيبت بمرض عضال في معدتها. وكان لزوجته الثانية فاطمة الزهراء أبو قوس، التي تصغره بخمس وعشرين سنة، دور في مساعدة الكاتبة في أن يبصر الكتاب النور. وقد أنجبت أنس الذي يسير في درب والده. فخري انتُخب نقيباً للفنانين ونائباً في مجلس الشعب (1999)، وكان شعار حملته الانتخابية: «أعطيتكم صوتي خمسين سنة، أعطوني صوتكم».
إلى السيرة الموسعة الطاغية الأريحية عليها، لا سيما في الحوار في نهاية الكتاب لمعرفة الكاتبة نصار الوطيدة بفخري، منذ أن كانا طفلين، في الكتاب كثير من محطّات النوستالجيا إلى حلب وعاداتها وتقاليدها وموروثها، وصولاً إلى مدينة أمعنت يد الخراب فيها، وعملاق سوري منعه المرض من الغناء منذ 2010.
«صائد المواهب» سامي الشوا كان الأول في اكتشاف موهبته


«أنا» الكاتبة الحاضرة في غير مطرح من الصفحات الكثيرة التي تربو على الثلاثمئة والمنقسمة إلى فصول قصيرة تتبع تسلسلاً زمنياً ومدعمة بالصور، لا تقلل من أهمية المحتوى، لا سيّما المعلومات الموسيقية القيّمة الواردة في الكتاب، وأبرزها الفروقات بين القد والموشح، وماهية النغمات الشرقية. سيرة «زرياب حلب» جديرة بالمطالعة، وفيها الكثير من شخصيته المدللة وكبره وسوريته الملتصقة بالقضايا العربية، وهي إضافة للمكتبة العربية.