«شِبَّهْتِك بْهَالسَّهْل!» الشطر الأصغر والأوسع والأرحب لغزلٍ رصفه الشاعر البقاعي طلال حيدر، في كلمتَيْن فقط. كيفَ تُحوى السهول؟ سهول البقاع!؟ اسمها بقاع! ما هو السحر اللغوي الذي يجعل ثلاثة أحرف تختزل مدى... «سهلاً»؟ والأعجز بعد.... أن نرسمها! نعم، هنا مازن الرفاعي رسمها كلّها في معرض قد لا يتذوّقه إلا من فهم معنى تلك الرحابة بالذات. في «غاليري أجيال»، يفرد التشكيلي اللبناني السهول بصدق ألوان السهول. يقول بلهجة لبنانية قد يحبّب للبعض أن يسمعها بقاعيةً خصبةً «هَيْك... السهول» عنواناً للمعرض. أعمالٌ تُثمِل الرائي بالرحابة، تسكنه بالسلام. تصفّي الذهن، ثم تبُثُّ طاقة نادرة في قلوب الرائين. معرضٌ يهدي الحلا... كل هذا الحلا، وأكثر.

«سهل» (أكريليك على قماش ـ 80 × 80 سنتم ـ 2018)

قد يتفلسف المشرّحون من النقّاد الفنيّين، ويعيدون إلى الذاكرة البصرية للقارئ كلّ من رسم سهلاً يوماً، وكلّ من بسّط في التشكيل، وكلّ من مزج لوناً فأراده واحداً أحداً لا مزيج له.
لكننا نسأل الجميع: أليس كل المينيماليين مينيماليين؟ أليس كل التبسيطيين تبسيطيين؟ أليس كل رسامي المناظر الطبيعية رسامي مناظر طبيعية؟ فأين الاكتشاف؟
ليس التشابه تطابقاً. صحيح أنّه منطق لغوي بصري واحد، لكن الاكتشاف الفعليّ هنا أن تمخر عباب اللون بشراع خطر التشابُه، فتصل إلى عمق التشكيل ناجياً، بل ظافراً!
ونسأل بعد: كيف استطاع طلال حيدر أن يختصر الرحابة والغزل في كلمتين اثنتَين؟ بل كيف لسهولِ شاسعة أن تسكن شطراً واحداً صغيراً من قصيدة؟ وكذا، كيف بقدرة فنان وضربة ريشة على مساحة صغيرة، صغيرة فعلاً، يدخل الشاسعُ مجالَ العينِ لتتسع الرؤيا/ة!؟ كيف لقماشة أن تحوي حلماً... سهلاً وأكثر؟
هذا بالضبط معرض مازن الرفاعي. التشكيلي الذي درس الفنون في ماشيراتا في إيطاليا، ثم الهندسة الداخلية في لبنان، وخاض التجربة الأكاديمية، كانت له مشاركات عديدةٌ ومعارض مشتركة وفردية منذ عام 1974، أي منذ ما يناهز نصف قرن.
بالأكريليك على القماش، حيث أكبر لوحة هنا لا تتعدَّى 80 سنتيمتراً تقريباً، فيما تصل أصغرها إلى حدود الثلاثين سمنتيمتراً، تخاض أحلام المزج اللوني لتصب يقظةً على القماش، نوراً، ظلاً، دفئاً أو رعشة برد لطيفةً محيية. بين تدرجات أصفر السهول وتنوّع قِيَم رمادي الظلال، وأزرق السماء، يقف الأخضر بتنويعاته ليرسم حدود جبل أو أطراف السهل. ولا تغيب الترابيات، بل ترسم بيد الفنان أفق المساحة المسطحة من دون ضجيج، رغم صعوبة استخدام الترابيات في هذا الإطار معاكسة الوسع السماواتي.
مساحات لونية نظيفة، تتجاوَر وتتحاكى، تتسامر وتخلق للرائي أبعاداً تقلب مفهوم الاختزال إلى معطيات كثيفة، كثيرة، رحبة، واسعة!
نعم، هو معرضٌ للذواقة من مريدي جُودة التخصص. هنا لا يمكن تشبيه أعمال الرفاعي بأعمال أحد. الفرادة في عمق الطَّعم. نعم كل النبيذ الحلوِ، هو نبيذ حلو، لكن ذائقة كل نوع، كل كأس، بل كل جرعة تختلف لدى الذواقة. ومازن فريد، لا تشبه جرعة أعماله أي جرعة مناظر طبيعية أخرى، إلا السهل بذاته. وهذه الضربات المختصرة العريضة إنما هي إخلاصٌ للبصر، إخلاصٌ للسهول، إخلاص لذات الفنان مع نفسه أمام فعل التشكيل. إخلاص لفنّ التكثيف اختزالاً، أو حتى فنّ الاختزالِ تكثيفاً. وقد يجوز القول إن الوصف الأدق لهذا المعرض وفنّانه، كُتِبَ قبل عقود. نستعيره من كلمات حيدر، علّها تسعفنا:
«شِبَّهْتك بْهالسَّهْل
بْقِرص العَسَل
عِمْلو عَ مَهْلو النَّحْل
شِبَّهْتك بحَالك...»

* «هَيْك... السهول»: حتى 25 أيار (مايو) ــــ «غاليري أجيال» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/345213