من المعروف أن المسيحية تحتفظ بمكانة خاصة لشهداء الكنيسة، ويحوي تاريخها أدبيات كثيرة ذات صلة، ينتمي ـــ في ظننا ـــ إلى ما يعرف بتاريخ القديسين وتاريخ الكنيسة، وهو عرض تاريخي خلاصي وليس مادياً. لقد نشأت المسيحية في ظروف معارضة حيث خضعت لنحو ثلاثة قرون من الاضطهاد، وفق ما يرد في المؤلفات ذات الصلة. لكن مع تبنّي قسطنطين المسيحية، على ما يُقال، استحال من مضطهِد لها إلى حام لها ولأتباعها. على أي حال، عاش مسيحيو الشرق ــ ونعني هنا بلاد الشام ـــ قروناً عديدة من الاستقرار في ظل سلطة إمبراطورية تحميهم وتوفّر لهم متطلبات الاستقرار والتطور، حتى غزا (انظر «كتاب المغازي» للواقدي) العرب المسلمون بلاد الشام وطردوا الإمبراطورية البيزنطية من الإقليم.
الكاتب كريستيان سي. ساهنر، وهو أستاذ مساعد في مادة التاريخ الإسلامي في «جامعة أوكسفورد»، يورد في كتابه «شهداء المسيحية في ديار الإسلام: العنف الديني وتأسيس العالم الإسلامي» (Christian Martyrs under Islam, Religious Violence and the Making of the Muslim World. pup 2018. 360 pp) أن مسيحيي بلاد الشام وجدوا أنفسهم في وضع مماثل لما قبل العهد البيزنطي، أي تحت حكم معادٍ لهم. لكنه في الوقت نفسه «يحذر» قراء كتابه من أن هدفه لم يكن أبداً كتابة تاريخ يربط الماضي بالحاضر، مؤكداً أن مؤلفه لا يشارك في مقارنات بين العنف الديني في الحقبة الإسلامية المبكرة والحاضر. تفادي الكاتب هذه المقارنة جلبت عليه نقد بعض أهل الاختصاص.

غلاف الكتاب

ويضيف الكاتب أن «مؤلفه يطمح إلى تقديم أول تاريخ شامل للاستشهاد المسيحي في القرون التكوينية بعد ظهور الإسلام»، وهي ظاهرة غير معروفة إلى حد كبير للجمهور، فضلاً عن العديد من المتخصصين الأكاديميين. كما يهدف إلى استكشاف كيف شكل العنف العلاقات بين المسلمين الأوائل والرعايا المسيحيين، والدور الذي مارسه القسر وسفك الدماء أو لم يمارسه في الانتشار الأولي للإسلام، والطريقة التي أصبح فيها المسيحيون يرون أنفسهم الأقلية المحاصرة في العالم المسلم الجديد. رغم طرحه هذه الأسئلة، من دون مجاملة، وبما يستحق البحث العلمي من صراحة ونزاهة وترفع، التي يعدها مركزية لدراسة الإسلام المبكر والمسيحية الشرق أوسطية على نطاق أوسع، فإنه يُقر بأن العثور على إجابات واضحة قد يكون صعباً للغاية.
موضوع المؤلف إشكالي، خصوصاً في هذه الأيام. لذلك فمن الطبيعي أن بعض أطروحاته ستسرّ البعض وستغضب آخرين من الأديان كافة ومن مختلف التوجهات السياسية. لكنه يوضح أنه ينجز عمل المؤرخ، وبالتالي فهدفه الوحيد هو تمثيل الماضي بأقصى قدر من الدقة، ليس على أساس الإدانة الشخصية، لكن على أساس التحليل المنطقي والمعالجة المتوازنة للأدلة. وهو سيعد مؤلفه ناجحاً إذا تمكن من حث الآخرين، خصوصاً في هذه الأوقات العصيبة، على معرفة المزيد عن التاريخ الغني لمسيحيي الشرق الأوسط، بخاصة علاقتهم مع المسلمين، مشدداً على ضرورة تذكّر أن السلام قد حدد هذه العلاقة عبر العصور إلى حد أكبر بكثير من سفك الدماء.
كذلك، يبحث هذا الكتاب في مجموعة «مهملة» من الشهداء المسيحيين الذين قضوا على أيدي رجال الخلافة المسلمين بين القرنين السابع والتاسع الميلادي، وقد عرّفهم معاصروهم باسم «الشهداء الجدد». لكن لم يكن هناك شيء جديد عن الشهادة نفسها سوى الاسم. قلنا إن الكنيسة اهتمت كثيراً بشهدائها منذ القرن الأول، والمسيحيون كانوا يحتفلون بالقديسين الذين ماتوا وهم يشهدون على إيمانهم. فقد استشهد رسل المسيح جميعهم باستثناء واحد، وتوفي العديد من النجوم البارزين في الكنيسة المبكرة في ظروف عنيفة، بمن في ذلك شخصيات مثل إغناطيوس الأنطاكي (ت 108)، وبوليكارب أسقف سميرنا (ت حوالى 155)، وقبريانوس القرطاجي (ت 258). مع أن وتيرة الاستشهاد تباطأت في حدود الإمبراطورية الرومانية، إلا أن سفك الدماء استمر خارج حدود روما. في العراق الساساني وإيران مثلاً، قضى المسيحيون الناطقون باللغة السريانية على أيدي السلطات الزرادشتية وتم تخليدهم قديسين. لكن التنافس الحاد بين الطوائف المسيحية المختلفة، أدى إلى طقوس شهيدية جديدة داخل «الكنائس المنشقة» في الإمبراطورية. ومن هؤلاء شهداء الدوناتية في شمالي أفريقيا وشهداء الميافيزية (السوريون الغربيون) في شمالي بلاد ما بين النهرين والشام.
الشهادة عملت على إنشاء هوية مسيحية في الشرق الأوسط في وقت مبكر من العصور الوسطى


الغزو العربي ـــ الإسلامي المعادي جعل مسيحيي تلك البقاع يجدون أنفسهم في مأزق جديد. لذا تمسكوا بما في تراثهم، وفي مقدمته الاستشهاد. قام المسيحيون في أمكنة متنوعة مثل شبه الجزيرة الأيبيرية ومصر وسوريا وأرمينيا وجورجيا، والكنائس المحلية، بتبجيل المسيحيين الذين ماتوا على أيدي رجال الدولتين الأموية والعباسية. وهنا بدأ توظيف مصطلح «الشهيد الجديد» لتأكيد الإحساس بالاستمرارية بين معاناة ذلك العصر ومعاناة العصر الذهبي قبل تَمَسْيُح قسطنطين. لقد تم قتل (إعدام) الشهداء الجدد لتعارضهم مع إيمان وثقافة جاءت إليهم واعتنقها بعضهم. أولئك الشهداء كانوا مجموعة متنوعة، بمن في ذلك الرهبان والجنود وأصحاب المتاجر وكهنة القرية والحرفيون والأمراء والأساقفة. كانوا من النساء والرجال، صغاراً وكباراً، فلاحين ونبلاء. ومع أن عقوبة القتل مست مجموعات معينة، مثل رجال الدين، فإن مختلف الأطياف الاجتماعية في أوائل الشرق الأوسط بجّلت الشهداء.
المسيحية ـــ بحسب الكاتب ـــ عرفت ثلاث مجموعات رئيسة من الشهداء في العهد الأموي وأوائل العهد العباسي (660-860 ت س) أي بين تاريخ الشهادة الأولى في دمشق المسجلة في العهد الأموي، وآخر انفجار كبير من الشهداء، الذي وقع في قرطبة. المجموعة الأولى والأكثر عدداً كانت من المسيحيين الذين تحولوا إلى الإسلام، ثم عادوا إلى المسيحية. ولأن «الردة» أصبحت تعدّ جريمة كبرى بموجب الشريعة الإسلامية، فقد واجهوا «الإعدام» إذا ثبتت إدانتهم. المجموعة الثانية مؤلفة من مسلمين، اعتنقوا المسيحية من دون أي انتماء مسبق لدينهم الجديد. وتألفت المجموعة الثالثة من المسيحيين الذين افتروا على النبي محمد في حضرة كبار رجال الخلافة. إلى جانب هؤلاء، كان هناك عدد أقل من المسيحيين الذين «أُعدموا» لرفضهم التحول القسري للإسلام، وقُتلوا أثناء محاربة العرب في أوقات الحرب، أو الذين ماتوا نتيجة للعنف العشوائي وغير الديني.

أيقونة القديس ثيودوروس من جبل سيناء تعود للقرن العاشر

عدد المسيحيين الذين قضوا على أيدي المسلمين، بحسب الكاتب، قارب 270 شهيداً جديداً من أوائل الفترة الإسلامية، هذا إذا قام المرء بجمع القديسين المذكورين في مؤلف سير القديسين hagiography والتقويمات الليتورجية والسجلات التاريخية، لكنه لا يقبله ويعلل ذلك بالقول إن هذا العدد مضلِّل إلى حد ما، لأنه يتضمن العديد من القديسين الذين ماتوا ضمن مجموعات أكبر، وبالتالي يتم تمييزهم على نحو سيّئ في السجلات التاريخية. ومن ضمن هؤلاء شهداء غزة الستون، وهم مجموعة من الجنود البيزنطيين الذين «أُعدموا» بعد الغزو العربي لفلسطين في أواخر ستينيات القرن السابع. كما يضم العدد شهداء القدس الستين، وهم مجموعة من الجنود البيزنطيين الذين قتلوا خلال رحلة إلى الأراضي المقدسة في 724/725 ؛ إضافة إلى عشرين شهيداً لمار سابا، الذين ذبحوا خلال غارة بدوية على ديرهم في 788/797؛ وكذلك الشهداء الـ42 من أموريون، وهم مجموعة من الجنود البيزنطيين الذين أسروا في هجوم عربي على الأناضول عام 838 و«أُعدموا» في العراق عام 845؛ إلى جانب 48 شهيداً تطوعياً في قرطبة، «أُعدموا» بسبب التجديف والردة في العاصمة الأموية الأندلسية ما بين عامي 850 و859. بذلك يتقلص العدد الإجمالي للشهداء الأفراد إلى حوالى أربعين.
يناقش الكاتب أيضاً إمكانية استخلاص استنتاجات واسعة حول موضوع شاسع مثل «صنع العالم الإسلامي» من قاعدة الأدلة النحيلة هذه، ويؤكد أنه لا يجوز التقليل من صعوبة إعادة بناء فترة كاملة على أساس مجموعة محدودة إلى حد ما من المصادر المتوافرة حالياً. كما يزداد خطر هذا التحدي بالنظر إلى حطام الأسطورة المتراكم الذي يحيط بالعديد من الشهداء، مما يصعّب عملية الحصول على صورة واضحة عن حياتهم وأوقاتهم. لذلك، خصص الكاتب صفحات يشرح فيها لماذا يرى أن حيوات العديد من القديسين معقولة تاريخياً، وبالتالي سبب وجوب معاملتها مصادر مفيدة للمعلومات للمجتمع بأسره في وقت مبكر.
يؤكد الكاتب أن استخدام عقوبة «الإعدام» بحق المسيحيين سمة مهمة من سمات التاريخ الإسلامي المبكر، لكنه كان محدوداً في نطاقه وذا هدفين محددين: أوّلهما إثبات سيادة الإسلام والحفاظ على الشخصية الإسلامية للدولة في وقت كان فيه عدد المسلمين أقل بما لا يقاس من عدد غير المسلمين. لقد كان لعمليات «الإعدام» العلنية وظيفة صُممت لغرس الطاعة في صفوف السكان غير المسلمين الهائلي العدد والمترددين في قبول هذا التغيير. أما الوظيفة الثانية، فكانت صياغة الحدود بين الجماعات في وقت شهد اختلاطاً اجتماعياً ودينياً غير مسبوق، لأن المسلمين والمسيحيين تفاعلوا بعضهم مع بعض في أكثر البيئات حميمية، من ورش العمل والأسواق إلى بلدات المدينة وحتى الأسِّرِّة الزوجية، دوماً وفق الكاتب. لذلك، فليس مستغرباً أن هذه التفاعلات الاجتماعية قادت إلى ممارسات متداخلة، بما في ذلك السلوكيات التي تسهم في ضبابية الخط الفاصل بين المسيحية والإسلام. وللتأكد من أن التحول والاستيعاب قد ذهبا باتجاه الإسلام على وجه الحصر، قام رجال الدولة الإسلامية بـ«إعدام» أكثر «عابري الحدود»، الذين عدّ المسيحيون بعضهم قديسين.

القديسان سركيس وباخوس

هذه الحقائق ـــ كما يراها الكاتب ــــ توضح صورة معاكسة للرأي الشائع في الثقافة الشعبية اليوم، الذي يدعي أن الإسلام قد انتشر أساساً بحدّ السيف، لأن السجلات التاريخية تشير إلى صورة أكثر تعقيداً. رغم كونها حقيقية وأحياناً شرسة، إلا أنّ عقوبة «الإعدام» ظاهرة بيروقراطية ملحوظة تتبع القواعد الراسخة وتعتمد على مؤسسات الدولة. كما أن العنف الفردي ضد غير المسلمين والتحول القسري لم يكونا سمة رئيسة في فترة ما بعد الغزو. فالأمويون والعباسيون لم يكونا مهتمين باضطهاد المسيحيين. على الأقل لم يكن هناك اهتمام منهجيّ بالأمر. في الواقع، اتخذت الدولة موقفاً غير مكترث تجاه حكم «الذميين»، وسمحت لهم بالعيش كما رغبوا، شريطة دفع الجزية (مرادفة لما يعرف حالياً باسم «بدل خدمة عسكرية») وقبلوا تبعيتهم على النحو المنصوص عليه في القوانين.
على العموم، يقول الكتاب، إنّ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين تميّزت في الفترة المبكرة على نحو سلمي من التعايش، لكنه محير. فالمجموعتان المتنوعتان داخلياً، تشاركتا السكنى في المدن نفسها، وكانتا تتحدثان باللغات نفسها، ومع مرور الوقت، تشاركتا على نحو متزايد في العديد من الأقارب والأصدقاء. في الواقع، بدأ التمييز الثابت بين الطبقة الحاكمة العربية المسلمة والشعوب غير المسلمة يتلاشى مع مرور الوقت، حيث تضخمت صفوف الجالية المسلمة مع المتحولين غير العرب. هذا لا يعني استبعاد حقيقة أن الإمبراطورية الإسلامية تأسّست في مطلع الغزو، حيث فرضت المعاناة والحرمان على السكان الأصليين، بمن فيهم المسيحيون، كما يحدث في كل الحروب. كما أنه لا يعني استبعاد حقيقة أن المسلمين والمسيحيين قدموا ادعاءات متناقضة وحصرية في ما يتعلق بطبيعة الله أو حقيقة أن المسلمين تمتعوا بامتياز الوصول إلى السلطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي استخدموها لتهميش منافسيهم. لكن الكاتب يرى ضرورة الإشارة إلى أن الأحداث العنيفة، مثل الشهادة، وقعت على خلفية ما يسميه العرب اليوم «العيش المشترك»، وليس على خلفية عداء مستمر.
انطلاقاً ممّا سبق، يقول الكاتب هنا تبرز السنين الخمسون الأولى من العهد العباسي، كونها الفترة الأكثر أهمية في ما يسميه هذا المؤلف «صناعة العالم الإسلامي». لقد كان المسلمون والمسيحيون في هذا الوقت يتفاعلون بعضهم مع بعض كأعضاء في مجتمع متكامل بشكل متزايد، بدلاً من كونه حكاماً ورعايا في عالم منقسم اجتماعياً، كما فعلوا في أعقاب الغزوات مباشرة. كانت الفوارق التقليدية بين المسلمين والمسيحيين، كالعرب وغير العرب والجنود والفلاحين وسكان المدن والقرويين، تختفي في أوائل العهد العباسي. ذلك حصل بسبب الأعداد الكبيرة من غير المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام، وزيادة الاستيطان الإسلامي في الريف، والممارسات مثل العبودية والزواج، التي جلبت الفاتحين وغزوات متزايدة. هذا العالم المشوش ولَّد مخاوف جديدة بشأن التمايز الاجتماعي والديني، ما أدى إلى ارتفاع معدلات عنف الدولة، حيث يمكن ملاحظة ذلك في عدد أكبر من حوادث الاستشهاد في الفترة العباسية، ما شكّل أيضاً دافعاً للكتّاب المسيحيين لإحياء ذكرى هذه الحوادث في شكل أدبي. الشهادة عملت على إنشاء هوية مسيحية في الشرق الأوسط في وقت مبكر من العصور الوسطى، ترتكز إلى ذكريات سفك الدماء، والعداء تجاه الإسلام، والعداء للمسيحيين الذين تحولوا إلى الجانبين. وهكذا، يطمح هذا الكتاب إلى توفير ليس فقط تاريخ لظاهرة تاريخية وأدبية محددة استشهادية، لكن أيضاً تسجيل تاريخ للمجتمع الأوسع الذي أحدث العنف والنصوص على السواء، التاريخ الذي كان في طور التحول إلى «مسلم».
أخيراً، وبعدما عرضنا بعض الموضوعات الرئيسة التي يعالجها المؤلَّف، ننهي عرضنا بذكر محتواه:
ينقسم هذا الكتاب إلى خمسة أقسام رئيسة: الفصل الأول «التحول إلى الإسلام والعودة إلى المسيحية»، يعالج بالبحث أكبر مجموعة من الشهداء الجدد، أولئك الذين بدأوا الحياة مسيحيين، وأصبحوا مسلمين، ثم عادوا إلى المسيحية. من بين هؤلاء، كان هناك العديد من المجموعات الفرعية، بمن في ذلك المسيحيون الذين اعتنقوا الإسلام عبيداً أو سجناء، والمسيحيون الذين تحولوا في ظل ظروف متنازع عليها أو طارئة، والشهداء الذين نشأوا في أسر مختلطة دينياً.

من كتاب الصلوات الذي أنجز للإمبراطور باسيل الثاني 976 - 1025

الفصل الثاني «التحول من الإسلام إلى المسيحية»، يتبع الفصل السابق من خلال استكشاف مجموعة صغيرة ومهملة من الشهداء الذين تحولوا من الإسلام إلى المسيحية. يوضح الفصل أن التغيير الديني في الشرق الأوسط بعد الفتح لم يسر باتجاه واحد، أي من الكنيسة إلى المسجد، من خلال تسليط الضوء على مجموعة من الشهداء الذين انتقلوا من المسجد إلى الكنيسة. بعد مسح أدلة الردة الحقيقية في الأدب القانوني والليتورجي والتاريخي، يناقش أحد المتحولين الذين قيل إنه كان عضواً في قبيلة قريش. بعد ذلك، تبرز شهيدتان مسلمتان من القوقاز ومجموعة من «المرتدين» من العراق والأندلس ومصر. يبحث القسم الأخير في مجموعة غريبة من الأساطير عن تحول خلفاء وغيرهم من كبار المسلمين إلى المسيحية، يعدها الكاتب تعبيراً عن آمال معاصرة لـ«لحظة قسطنطينية» ثانية، عندما يتحول حاكم وثني جديد إلى المسيحية ويستعيد مكانة الكنيسة في الشرق الأوسط. توضح هذه النصوص وغيرها كيف يمكن أن تكون الأسلمة عملية هشة.
الفصل الثالث «التجديف على الإسلام»، يحقق في المجموعة الرئيسة الثالثة من الشهداء الذين «أُعدموا» بعد استخفافهم بالنبي. إنه يبدأ بنظرة موجزة عن تطور قوانين مناهضة التجديف في الإسلام بحجة أن الحظر المفروض عليه كان بطيئاً للغاية في الاندماج طوال الفترة الكلاسيكية. ثم يفحص عدداً من المسيحيين الذين قُتلوا بسبب التجديف في مصر والشام. القسم الأخير من هذا الفصل يدرس الأدلة الوفيرة على التجديف في قرطبة، عاصمة الأندلس، حيث استشهد 48 مسيحياً بين عامي 850 و 859. هذا يشير ـ بحسب الكاتب ـ إلى أن المسيحيين المجدفين كانوا أقرب إلى المسلمين من الأسر المختلطة دينياً، وخدم المحاكم الإسلامية، والأفراد في أماكن العمل المختلطة دينياً. بناءً على هذه الأدلة، يقترح الكاتب فكرة أن التجديف ظهر كشكل محدد من أشكال الاحتجاج المسيحي ضد الأسلمة والتعريب في وقت كان فيه عدد علماء الدين المسلمين في الأندلس في صعود، وكذلك النقاش بين أعضاء الديانتين. هذا بدوره أدى إلى توعية المسيحيين على مختلف مستويات المجتمع بالاختلافات بين الديانتين، ما شجّعهم على الاستخفاف بالإسلام على نحو أكثر فاعلية.
الفصل الرابع «محاكمة الشهداء المسيحيين وقتلهم»، يدرس كيف تمثل حياة الشهداء الإجراءات القضائية والعقوبات الجنائية، وتقول إن الدولة كانت تعتمد على شبكات خاصة من المخبرين، بمن في ذلك الأقارب والأصدقاء، لاقتلاع المرتدين والمجدفين. ثم يوضح كيف يمكن لرجال الدولة أن يكونوا حذرين على نحو استثنائي عند محاكمة المجرمين الدينيين، لكن بمجرد أن يثبتوا ذنبهم، كيف يمكن أن يكونوا وحشيين على نحو استثنائي في معاقبتهم. فقد استخدمت الدولة الاسلامية عقوبات محددة مستمدة من سورة المائدة (33) «إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»، إلى جانب العقوبات المثيرة للجدل الأخرى التي ناقشها الفقهاء المسلمون بحرارة وكان أهمها حرق الجثث.
كذلك يشير الفصل إلى أن الدولة طوّرت مقاربة متماسكة لمعاقبة مجموعة واسعة من المنشقين الدينيين، كما يتضح من أوجه الشبه المتشابكة بين «إعدامات الشهداء المسيحيين والمسلمين الذين عدّتهم زنادقة مثل الشيعة والخوارج. ويختم الكاتب الفصل بالقول إن العنف كان محدوداً في نطاقه، وكان يهدف إلى تأمين مكان للمسلمين في قمة المجتمع المختلط دينياً الذي يحكمونه، وخلق ثقافة منتشرة عبر الحدود. ويبدو أن الحاجة إلى احتواء الاضطرابات المحتملة والتضييق على الفوضى المحتملة يتكمن وراء كثير من وحشية الدولة.
يقدم الكتاب صورة معاكسة للرأي الشائع بأن الإسلام انتشر أساساً بحدّ السيف


الفصل الخامس «خلق القديسين والمجتمعات» ينظر في معنى hagiography «سير القديسين» كنوع من الأدب في فترة ما بعد الغزو، ويبحث في الأهداف الخطابية لهذه النصوص، بحجة أن العديد من الرهبان والكهنة قد كتبوا للثني عن اعتناق الإسلام وإدانة المسيحيين الذين تم جذبهم عن كثب إلى الثقافة العربية. كما يشير الجزء إلى أن «الاستشهادية» كرست آراء جانب من النقاش داخل المسيحية حول تهديدات الأسلمة والتعريب. عند وضع أطروحة قدمها للمرة الأولى من قبل شهداء قرطبة، فإنه يقترح أن يكون كتّاب سير القديسين في أنحاء الشرق الأوسط كافة من دعاة «الرفض» الذي ينظر بحذر إلى دين الغزاة وثقافتهم. هؤلاء «الرافضون»، بدورهم، شجعوا المسيحيين على الحفاظ على هويتهم من خلال عزل أنفسهم عن المسلمين، وعند الضرورة، من خلال اتخاذ المواقف العلنية ضد الإسلام من خلال التجديف. إن آراء خصومهم الإيديولوجيين «المتكيفين»، لا تنجو صراحة، رغم أن شكاوى «الرافضين»، تظهر أنهم اتخذوا مواقف أكثر تسامحاً تجاه الأسلمة والتعريب، وذهبوا بسهولة أكبر مع مد التغيير. علاوة على ذلك، يبدو أنهم رأوا فائدة أكبر في صنع السلام مع المسلمين من الاحتجاج ضدهم من خلال سلوكيات مثل الشهيد. يختتم هذا الفصل بتخيل كيف أن هذين الاتجاهين ـــ إذا وجدا على هذا النحو ـــ ربما يكونان قد تمّ ربطهما ببعض الفئات الاجتماعية والطائفية. وتشمل هذه الفوارق بين المجتمعات الحضرية والريفية، ورجال الدين العلمانيين والرهبان، والمِلْكيين (melkite)، والكنيسة السورية الغربية (الميافيزية)، والكنائس السورية الشرقية. يشرح هذا الفصل كيف ولماذا أخذ المِلكيون - المسيحيون الخلقيدونيين في الشرق الأوسط الذين ظلوا في شراكة مع القسطنطينية بعد الفتوحات - في الكتابة الاستشهادية (martyrology) على نحو أكثر حماسة من منافسيهم في الطوائف الأخرى، بحجة أن هذا له علاقة بسقوطهم من النعمة بعد مئات السنين من رعاية الإمبراطورية.
الجزء الأخير، «الاستنتاج» يعد أنّ التسلسل الزمني للشهداء هو وسيلة لقياس وتيرة الأسلمة والتعريب في فترة ما بعد الغزو، و يشير إلى أن الزيادة الواضحة في العنف بين عامي 750 و800 قد نشأت عندما بدأ المسلمون والمسيحيون بالتفاعل بعضهم مع بعض للمرة الأولى كأعضاء في مجتمع مشترك، بدلاً من أن يكونوا حكاماً ورعايا في عالم منقسم، كما كان في فترة ما بعد الفتح مباشرة. هذا بدوره أدى إلى زعزعة الاستقرار في العلاقات بين المجتمعين، ما أفضى إلى قلق جديد بشأن التمايز الاجتماعي والديني. تتناول الصفحات الأخيرة تراث الشهداء من العصور الوسطى حتى الوقت الحاضر، وكذلك الدور الذي مارسه الشهداء في عملية تشكيل المجتمع لمختلف الطوائف الناشئة في أوائل العصور الوسطى، المسيحية والإسلامية على السواء.