يبحث فارتان أفاكيان (1977) في معرضه «كل ما يُرى وما لا يُرى» عن نصوص تعلو النصوص المكتوبة في الكتب. نصوص تخطّها الأصابع التي تقلّب الصفحات، رذاذ العطاس، أثر الرفوف التي قبعت عليها، ديدان الورق، الرطوبة، أنفاس من حملوا الكتاب. يحاول الفنان اللبناني أن يستكشف سيراً وجدانيّة أخرى للكتب في معرضه الفردي الذي يستمر في «غاليري مرفأ» (مرفأ بيروت) حتى منتصف نيسان (أبريل) المقبل. في آخر أعماله يستمرّ أفاكيان ما بدأه في معرضه «هباء منثور» (2015)، وإن اختلفت الموادّ من الغبار إلى صفحات الكتب. تقفّى حينها ذاكرة «مبنى بركات» في بيروت، من خلال التنقيب عن دلائل وآثار غير مرئية وتحويلها إلى موادّ كريستاليّة ملوّنة وصلبة. يبدو الفنان مهووساً باحتمالات الحضور المادي لما ليس ملموساً، انطلاقاً من هاجس الاحتفاظ بالذاكرة، والأيام، واللمسات… ومن سؤال أساسي هو أين يذهب الأثر؟ لا يزال طرح الفنان قادراً على جمع الحميمية، والشاعريّة مع صلابة الكيمياء. معرضه يقوم على إخضاع الطبيعة الشعوريّة للحنين، لعمليّة كيميائية، لتحويلها إلى مادّة مرئية وملموسة، تصبح بدورها دلائل أخرى تحتاج إلى تفكيك. تطاول أعماله المعروضة ضمن قسمين في المعرض، مجالات عدّة. إذ تأخذ عملية التحويل هنا بعداً تأويلياً سيميائياً لعلامات غير مرئيّة، ثم يستعين بالطريقة الداغيرية الأولى في تظهير الصور وطبيعتها الماديّة، والأركيولوجيا، والذاكرة وكيفية كتابة التاريخ الشخصي والجماعي، والحمض النووي. يستخدم أفاكيان صفحات الكتب على أنها صور. صور للذاكرة. صور للحضور البشري ومخلّفاته البيولوجية… لمضيّ الزمن. تصبح كل قطعة أو مادّة معلومة، أثراً قائماً بذاته.
ابتداء من قصّة مكتوبة على «كيندل»، يلجأ الفنان إلى السرد ليقصّ علينا الحادثة الذي دفعته إلى المعرض في نص يحمل عنوان «عضّ الجلد المحيط بأظافري». تبدأ القصة من تعرّض استديو الفنان لفيضان عام 2007، غطى السجاد في الأرض، ونال من بعض محتويات مكتبته. حادثة أثارت السؤال الأساسي للمعرض: ما الذي يمنح الكتب قيمتها، باستثناء تلك المؤلّفات النادرة والمخطوطات التي لا يمكن حتى العثور عليها؟ هكذا قسّم كتبه إلى فئتين: المجموعة X تتضمّن الكتب التي يمكن استبدالها، أي تلك التي تكمن أهميتها في مضمونها المكتوب. والمجموعة Y تحوي كتباً تحمل قيمة إضافية تتجاوز مضمونها.
يمدّ أفاكيان سياقات زمنية مختلفة لقصّته، فيعيدنا إلى القرن التاسع عشر حين كان رجلاً يخترع التصوير الفوتوغرافي من خلال السائل الفضي والأملاح والضوء. وإلى مقبرة عام 2015، ينهي فيها محقّق حديثه مع شاهدتين بآية من سورة «فصّلت»: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». وأخرى في القرن الميلادي الأوّل لحيوان السلمندر الزاحف الذي يأكل جلده بعد تبديله كي يخفي أي أثر له من الحيوانات الأخرى. يأخذ الجلد هنا معناه الواسع والكوني الذي يحيلنا إلى قدرة كل سطح على حمل المعلومة مع مرور الوقت. هكذا يفعل في المعرض. يلجأ إلى تفحّص جلود الكتب من خلال التقنية الفوتوغرافية البدائية. اختار أفاكيان 12 كتاباً من مكتبته، وأجرى هذا الاختبار الكيميائي على صفحتين منه عبر دهن الصفحات المختارة بالسائل الفضي والأملاح وتعريضها للضوء. جاءت النتيجة تجريدية، علامات فوق العلامات: تماوجات، وفراغات، وبياض، وقتامة تغطّي الأحرف المطبوعة. حين يحوّل هذه المعلومات إلى صور سيرية للكتب، ستصبح هذه الصور علامات مكثّفة بدورها تحتاج إلى تفكيك، وإن فكّكت فإنها مستعدّة لاحتواء العلامات والترميزات إلى ما لا نهاية. بجانب هذه الاقتراحات البصريّة للصور، بعد تحوّلها، تأتي السير المروية لتصلنا بالذاكرتين الفردية والعامّة: تاريخ الأرمن، الحزب الشيوعي اللبناني، حزب الله… عبر تسجيلات صوتية يخبر أفاكيان بصوته قصّة أو سرديّة مختصرة لكلّ كتاب من الكتب التي اختارها منها: كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، و«المينيمالية» التي كانت وراء تفكيره في أن يصبح فناناً، وكتاب «العهد الجديد»، الذي رغم التلف المادي الذي يصيب أوراقه، قرّر الفنان الاحتفاظ به لأن جدّته كانت تقرأ فيه طوال سنوات، وأحد أجزاء موسوعة «الأرمن في لبنان» التي فاز بها خلال مشاركته في مسابقة للمعلومات العامّة.
يستخدم صفحات الكتب على أنها صور. صور للذاكرة. صور للحضور البشري ومخلّفاته البيولوجية… لمضيّ الزمن

هناك نسخة من «القرآن»، ورواية حصل عليها من مكتبة «شكسبير آند كو» في باريس. في القسم الأوّل من المعرض، حاول أفاكيان أن يفكّك شيفرات المعلومات أو أن يظهّرها، وإن كانت النتيجة قد جاءت بشكل شيفرات أخرى. في القسم الثاني، يتبع الفنان سياقاً أوّليّاً من هذه العمليّة عبر خلق الأثر الصوتي. المشروع بدأ قبل أعوام، حين شارك فيه الفنان بمعرض جماعي في «مركز بيروت للفن» بعنوان «اسمع». ابتكر الفنان طريقة لحفظ الصوت، داخل آلات موسيقية صنعها يدوياً من قطع لآلات النفخ النحاسيّة. حينها وصل أفاكيان تجهيزاته إلى نهر بيروت وقام بتسجيلات حية لصوت النهر، وتصل بدورها إلى هذه الآلات النحاسيّة التي تحبس الصوت. في المعرض هناك أربع قطع موصولة إلى سبيكرات غير مرئيّة نستمع فيها إلى تسجيلات صوت نهر الراين الذي سجّله أفاكيان خلال مشاركته في معرض LISTE مع غاليري «مرفأ» في مدينة بازل السويسريّة. خرير المياه يدور ويدور داخل الآلة. نتحسّسه أكثر مما نستمع إليه. ما يهمّ أفاكيان هو الأثر المادي الذي ستتركه موجات الصوت على النحاس الداخلي. هكذا يبتكر أفاكيان الأثر في ممارسة أركيولوجية تساعد علماء المستقبل على تحليل هذا الصوت. العمليّة ذاتها يجريها الفنان على المعرض بأكمله. إذ دهن رخامة موضوعة في الغاليري بالسائل الفضي والأملاح، كي تلتقط الحضور البشري ومخلّفاته البيولوجيّة والضوء والظلال، ضمن تجربة حيّة تستمرّ طوال أيام العرض.

* معرض «كل ما يُرى وما لا يُرى»: حتى 15 نيسان (أبريل)ـــ «غاليري مرفأ» (مرفأ بيروت). للاستعلام: 01/571636