بعد ثلاثة عشر عاماً من تجربته السينمائيّة، نخال أن جمهور يورغوس لانتيموس (1973) ما زال يبحث عن طريقة ملائمة لمشاهدة أفلامه. إنه يعرف كيف يصيب ببرود شديد منبت قلقه، ذلك الذي يمكن أن يسمّى القلق الأم. من البديهي ألا يكون المتفرّج قد اهتدى بعد إلى الطريقة التي عليه أن يشاهد بها «كينيتا» (2005)، و«ناب الكلب» (2009)، و«جبال الألب» (2011)، و«سرطان البحر» (2015)، و«قتل الغزالة المقدّسة» (2017) و«المفضّلة» (2018). بمقدوره أن يكتفي بمسح جسده من الدم المتدفّق بلا سبب، كإفراز بشري آخر، أو بإغماض عينيه لئلّا يتراءى وجهه في مرآة الشاشة. لم يصنع لانتيموس أسلوبه السينمائي عبر فائض الدراما، أو الخسائر الفرديّة، ولا سيل المشاعر البشريّة. تلك اللقطات الباردة والمتقطّعة في أعماله تقوم على أسئلة مربكة، تتزامن مع آفات رأسماليّة وسلطوية معاصرة، يصبح معها العثور على الأرواح مستحيلاً. يحب لانتيموس أن يبدأ من الصفر. من كل ما يكتنزه الحضور الجسدي والخارجي للشخصيّات. سنجدهم يبحثون عن وجود لهم، أو عن طريقة للتعامل مع الموت أو الحب، كأنهم خرجوا لتوّهم إلى الحياة. في اليونان، أنجز «كينيتا» (2005) بميزانية متواضعة، مستهلّاً به الموجة الغرائبية اليونانية (راجع الكادر) التي تزامنت مع لحظة كارثية في تاريخ اليونان المعاصر. صناعة السينما في بلده، كانت حينها ضرباً من المستحيل. حين دخل إلى أكاديمية هيلينك للسينما والتلفزيون في أثينا، كان أكبر طموحاته أن يعمل في مجال قريب من الشاشة الكبيرة. اضطر في البداية إلى تصوير إعلانات ماكينات القهوة والسلع التجارية. عمله في تصوير العروض المسرحيّة والراقصة لاحقاً، صقل أدواته في التعامل مع أجساد الممثّلين ووجوهم، رغم أنهم لا يفعلون أكثر من حركات وإيماءات آليّة في الجنس والرقص والتقيّؤ، وحتى العناقات. بإمكانات زهيدة، اعتاد الرجل الأربعيني أن يصنع أفلاماً شارك في كتابة معظمها مع الكاتب اليوناني أفتيموس فيليلبو. الفريق صغير كي يتمكّن من التماشي مع أي تعديل قد يطرأ أثناء التصوير. ولعل هذه الميزانيّة المقلّة، جعلته يرعى ويحافظ على نبرته المتفرّدة، وطرحه اللامعقول للوجود البشري، تحت وطأة سلطات اجتماعية واقتصادية وسياسية معاصرة تسلبه وجوده. بأدواته البصريّة الخاصّة، صنع خصوصيته السينمائية التي تتلاعب برؤية المتفرج، خصوصاً مع المتوازيات الخيالية للواقع في السيناريو، وسط ديكورات مقلّة وداخليّة معظم الوقت كي يتردّد الوقع اللامجدي لكلمات قليلاً ما تقال، ولوجوه لا نتذكّر منها سوى امحائها. بعد ستة أفلام بدأها مع «كينيتا» (2005)، آخرها «المفضّلة» (راجع الكادر) الذي رسّخه مخرجاً عالمياً، يمكننا القول إن الرجل لا يزال حتى الآن قريباً من السينما، بمعنى أنه لم يطأها إلا محمَّلاً زادَه السينمائي الخاص الذي ورث ساديته من مخرجين أمثال مايكل هانيكه ولارس فون ترير. يصنع أفلاماً مثل ما يمليه رأسه ورؤيته الساخرة والقاتمة للعالم. قبل فيلمه الأخير «المفضّلة» بسنوات، ظهر اسم لانتيموس مع فيلمه الروائي الثاني «ناب الكلب» (2009) الذي نال عنه جائزة «نظرة ما» في «مهرجان كان السينمائي».



شكّل العمل ذروة المرحلة اليونانية التي قدّمت صوت لانتيموس بفجاجة، مدشناً نمطاً لرعب ما فوق واقعي. في فيلا لا نعرف من خارجها سوى المسبح والحديقة الخضراء، وضع العائلة داخل جدران وسياج يعزلها عن الخارج. الأولاد الثلاثة محكومون بالبقاء داخل حدود المنزل إلى أن يسقط أحد نابي الكلب من الفكّ. لا يعود البيت ذلك المكان الآمن. تنتزع الكاميرا الألفة بلقطات لإيماءات جسدية تطفئ الذات. تقدّم الحبكة تمثيلاً متطرفاً وكاريكاتورياً للعائلة وللسلطة البطريركية التي تفتت الوعي والأرواح بتعاليمها المتوارثة. رغم الإقلال في الحوار، وعبثيّته أحياناً، تبدو اللغة هي هذه الأداة السلطوية: البحر هو الكرسي، الزومبي هو الورد الأصفر... يلقّنهم صوت الأم عبر الشرائط المسجّلة. وفيما تغيب الأسماء كليّاً، كمن يعمد إلى تذويب الهويات، تضيع أعمار الأولاد وتتقلّب بين الطفولة والبلوغ، فيما تلتبس ممارساتهم البشريّة مع الحيوانيّة. حين تتكلّم الشخصيات، تتوجّه الكاميرا إلى القدمين والجزء السفلي من الجسد، في كادرات كأنما تعمد إلى تجريدهم من ألسنتهم. ضمن هذا القالب المينيمالي والمكثّف، تتوالى اللقطات وتتقطع مثل كولاجات من المشاهد التي تكتنز عنفاً سطحياً، ورمزياً أحياناً في الحركات الراقصة، والجنس الآلي، وجسد الدمية المكسور. في شريطه الروائي الثالث «جبال الألب» (2011) الذي أنجزه في اليونان أيضاً، تخرج الكاميرا من إطارها الداخلي، لتجول في البحر والمدينة، وفي النادي، وغرف النوم. سيتطلّب الأمر قليلاً من الوقت كي يعي المتفرّج مفاتيح اللعبة/ الحبكة. إنها متاهة من الشخصيات التائهة بين حقيقتها وإيماءاتها الخارجية. تقرّر مجموعة «جبال الألب» المؤلفة من أربعة أشخاص، تقمّص شخصيات الموتى بعد وفاتهم. يقدّمون إلى عائلاتهم خدمات تتمثل بتأدية أدوار الموتى كعزاء للفقد. ثمّة قوانين، وإن كانت تافهة كما يتقصّد لانتيموس في معظم أفلامه، تمنعهم من الممارسات الجنسية مع الزبائن، رغم بعض التجاوزات التي يقوم بها الأعضاء سرّاً.
أمام استحالة الشفاء من الموت، ينصرف أهالي الفقيد إلى تفاصيل صغيرة، مثل إصرار رجل على الاستماع إلى كلمة الجنة بدلاً من الفردوس كما كانت زوجته تفعل، فيما يفرض الأهل على المؤدية شرب كمية كبيرة من الماء مثل ابنتهم. أما المرأة العمياء، فلا تزال تحب أن تقبض على جسد زوجها أثناء خيانته لها مع صديقتها. في تشكيكه بحقيقة وجود الشخصيات الرئيسية، التي تقتات وجودها من فتات أرواح الموتى، يتسمّر الشريط في الموقف البشري الأوّل من الموت، عبر شخصيات تبدو خارجة لتوّها من صقيع المخرج السويدي روي أندرسون، خصوصاً في فشلها في إكمال حوار مفهوم، وفي رقصات لا تبلغ أبداً إلى الكشف عن الذات. مع «سرطان البحر» (2015)، ثم «قتل الغزالة المقدّسة» (2017)، انتقل يورغوس إلى الإنتاج العالمي لأفلام باللغة الإنكليزية والعمل مع ممثلين مثل ككولن فارل، ونيكول كيدمان وأوليفيا كولمان، وليا سيدو. لم يؤثر ذلك بالسيناريو المتقن، أو الغرائبية لـ «سرطان البحر» (جائزة لجنة التحكيم في «كان») الذي قدم فيه فيلماً مستقبلياً بلجوئه إلى الخيال العلمي.
لقطات باردة ومتقطّعة تقوم على أسئلة مربكة، تتزامن مع آفات رأسماليّة وسلطوية معاصرة


كابوس عاطفي طويل. رغم أن المدينة مجهولة، فإن المكان يبدو التجسيد المجرّد لمكان تتحكّم به السلطات المعاصرة ويشكّل فيه نظام الإنتاج ذوق الناس في اختيار شريك حياتهم. داخل فندق معزول، على المقيمين داخله أن يعثروا على شريك خلال 45 يوماً، قبل أن يتحوّلوا إلى حيوان من اختيارهم إذا فشلوا في المهمّة. هكذا يسخر من الضغط المعاصر الذي يفرض الارتباط العاطفي على الأشخاص أمام وهمهم الكبير الحريّة. ضغط لا يظهر إلا كوجه آخر للسلطة الدينية التي تحتم الزواج. يخلو الفيلم من العاطفة، إذ يفرغ لانتيموس الجنس والاستمناء والنظرات من أي شعور. سيحاول المقيمون في الفندق العثور على نقاط مشتركة مع الطرف الآخر، أو افتعالها أحياناً. يقدّم الفندق إعلانات تسويقية وتشجيعية على العلاقات التي يفترض أن تحول دون التحرّش مثلاً، كأنها الخلاص الوحيد لكل أسباب قلقهم. وإن كان الفيلم عن الحب، فإن أسلوب يورغوس السينمائي يجرّد العمل من آخر قطرة عاطفة من خلال معركة الصيد بين المقيمين في الفندق والثوار الذين يتمسّكون بوحدتهم. وأخيراً، سنرى قلباً في «قتل الغزالة المقدّسة» (جائزة «أفضل سيناريو» في «كان»). إذ تفتتح الصورة في الفيلم على قلب يطلق نبضاته الأخيرة على وقع موسيقى جنائزية لشوبرت. حين نصل إلى نهاية الفيلم، سنتأكد أن القلب لم يتعدّ الحضور الفيزيولوجي والطبي. مرّة أخرى ينكّل لانتيموس بأبطاله. يصنع من البيت المثالي لطبيبين (كولن فارل ونيكول كيدمان) مسرحاً لأسطورة عائلية معاصرة تقوم على أسطورة إيفيجينيا التي يضحي بها والدها أغاممنون ذبيحةً للإلهة أرتميس في إلياذة هوميروس. الإله هنا ليس أكثر من ولد طائش يقود دراجته النارية بلا خوذة، ويدخّن السجائر، وبدم بارد يريد أن ينتقم لوالده الذي مات تحت مشرط الدكتور ستيفن. تتبع الكاميرا الشخصيات في لقطات مريبة من الخلف خلال خطواتهم داخل الأروقة الباردة والطويلة للمستشفى، وفي اجترارهم للكلام في المؤتمرات الفخمة. يعرف لانتيموس كيف يزعج المتفرّج فيدسّ دماً في طبق معكرونة يلتهمه المراهق مارتن (باري كوهغان) بحيوانية. ما زال الفتك لعبة لانتيموس المفضّلة. يسلب ستيفن وآنا إرادتهما أمام المصير المحتّم للعائلة. اختياره أميركا موقعاً لتصوير فيلمه ليس مصادفة. في البيت الرائق والمثالي، تتعلّم الابنة الغناء في كورس، ويستعد الابن لبدء دروس البيانو، فيما تحيا النباتات بهدوء في حديقة المنزل. يقدّم الفيلم الطب كسلطة أخرى تتحكم بالأجساد. رغم ذلك، يصبح المستشفى مجرّد هيكل شفاف لبؤس المصير البشري أمام إبقاء الموت والمرض والشلل وأسبابهما لغزاً عبثياً. هكذا يتسلى لانتيموس في اقتراح مصائر أشد قتامة لمصائر الأحياء. يواصل الإمساك بخيط رفيع، للتلاعب بوعي المتفرّج بين النوم والحقيقة، النكات واليقظة الشديدة التي لا قدرة للعيون على احتمالها، الحضور والجسدي والداخل الغائب. نتأكد في النهاية أن لانتيموس ليس من المخرجين المأخوذين بفكرة إمتاع المتفرّج الذي لن يخرج بعد مشاهدة مسوخه البشرية كما دخل. الإمتاع حاضر بالطبع، لكن ليس قبل أن تكون قد أدميت عينا المشاهد مثل أعيُن طفلي «قتل الغزالة المقدّسة».



المفضّلة
مع إعلان عمله على «المفضّلة»، كان لا بد من السؤال: هل يتنازل لانتيموس عن أسلوبه الخاص لمصلحة السرديّة التاريخية التي يتناولها العمل؟ قدّم لانتيموس تجربة مختلفة عن أعماله السابقة، لكن وفق أسلوبه ومزاجه تقفّى أحداث القرن الثامن عشر. النتيجة كوميديا سوداء لحقبة كاملة تقوم على أجساد وأرواح ثلاث نساء: الأميرة آن (أوليفيا كولمان)، والليدي سارة (راشيل ويز)، وأبيغيل (إيما ستون). يكشف لانتيموس عن قدرة أخاذة على الغوص في أعماق النساء ومشاعرهن المعقّدة بين الرغبة والحب والأمومة والإغواء في عمل يمكن أن نتلمس فيه تأثيرات من «صراخ وهمس» (١٩٧٣) للمعلم السويدي إنغمار بيرغمان وأطياف نسائه اللواتي يشحذن العاطفة في القصر الأحمر. في شريطه الذي يستند إلى نص للكاتبة البريطانية ديبورا ديفيس، استفاض المخرج اليوناني بالأزياء وبالمكياج والتعبيرات الداخلية بالنسبة إلى أفلامه السابقة.

من فيلم «المفضّلة»

خلال الحرب مع فرنسا، ينصرف إلى حروب أكثر ذاتية تدور في أروقة القصر، ويجد متسعاً لمشاهده الغرائبية والعنيفة أحياناً مثل أقفاص الأرانب التي تعوّض الملكة عن أطفالها الموتى، والرقص على قدم واحدة، والقماشة التي تغطي بها سارة ندبتها. وفيما تنصرف النساء إلى إدارة شؤون البلاد، هناك زحزحة للمواقع الجندرية. إذ يلهو الرجال بسباق البط، ويتقمّصون عري النساء في مشهد يقف فيه أحدهم لتلقي تراشق البرتقال. ينتزع لانتيموس المشاعر الفردية من حقبة تاريخية حساسة في تاريخ بريطانيا، ليجعلها مثلثاً معاصراً للحب والسلطة. تقتحم الكاميرا الوجوه والأجساد ببطء، أحياناً ضمن كادرات واسعة وبعيدة، في لقطات تظهر تعبيرات الغيرة، والقوّة والفقد على وقع الموسيقى الكلاسيكية لباخ وشوبرت، وفيفالدي... إذا كان من مهمّة للفيلم، فإنه حقق انتشاراً واسعاً للانتيموس في العالم وفي هوليوود تحديداً. بعدما نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى في «مهرجان البندقية»، ترشّح الشريط لخمس جوائز «غولدن غلوب»، و«أوسكار» أفضل صورة وأفضل مخرج من دون أن ينال أياً منها، فيما استحقّت البريطانية أوليفيا كولمان «أوسكار» أفضل ممثّلة عن أدائها الساحر لدور الأميرة آن.


الموجة الغرائبية اليونانية
استهلّ لانتيموس ما أطلق عليه الموجة اليونانية الغرائبية في السينما، التي تزامنت مع الأزمة الاقتصادية في اليونان. أفلام كثيرة التحقت بهذه التسمية التي ضمّت إلى جانب «ناب الكلب» و«جبال الألب» للانتيموس، شريط «أتنبرغ» لليونانية أثينا راشيل تسانغاري، و«سيدة العنف» لألكساندروس أفراناس. من خلال لغات سينمائية غرائبية وسوريالية، لا تنساق إلى المقاييس التجاريّة، قدّمت هذه الأفلام اقتراحات قاتمة للحالات البشرية. مدير «مجتمع هيلينك للأفلام» في نيويورك جيمي ديميترو، يرجع هذه الموجة إلى الأزمة الاقتصادية في البلاد. انعكاس لها بشكل من الأشكال، خصوصاً حين فرض التقشف على المواطنين اليونانيين. عانى مخرجو هذه الموجة ما عانوه من عدم نجاح أفلامهم في الصالات اليونانيّة. بالإضافة إلى غياب الدعم والتمويل، كان يصعب وصول هذه الأعمال إلى الموزعين الأميركيين. يشير ديميترو إلى أن «ناب الكلب» هو النموذج الأكثر نجاحاً، في دوره في تشجيع المخرجين اليونانيين الآخرين على الوصول إلى المهرجانات العالمية خصوصاً، بعد نيله جائزة نظرة ما في «مهرجان كان».