البارحة أمطرت في بيروت، السماء تتصل معنا نحن أبناء الأرض، بحبال من المياه والهواء يعربد في أجوائنا وموج البحر يرتفع و«هو» أمامنا يقف فوق تلة، وأمامه تمتد سوريا بجغرافيتها وبعمرانها الآتي من رحم التاريخ. مشهد سينمائي يكاد يبدو حقيقة لكثيرين منا، نحن الذين شاهدنا الكبير دريد لحام في فيلم «دمشق ـ حلب» [1] للمخرج باسل الخطيب. كوقفة العظماء أو الحكماء أو العارفين، تتحول عيناه إلى حضن الأرض الكبير الذي يتسع لوجع سوريا. نبكي ونضحك ونغني معه ونصفّق لهذا الآتي من «سوريا المنتصرة». كل هذا جرى في لمحة عين، فالوقت يمضي سريعاً في لقاء تعبق فيه قيم الحب والأخلاق والإنسانية، على ما عداها. يأخذني الحنين إلى دمشق وحلب، ذكريات كثيرة تغتال لحظات انغماسي في متعة المشاهدة. أستدرك فأعود إلى فِعلة أحببتها كمشاهدة وكتبت عنها ودرستها في منهجية علمية أسفرت عن كتاب «الدراما والسياسة»، لكنني أمام قوة المشهد المكثّف لهذا العمل السينمائي منذ المشهد الأول وخطوات لحام المتسارعة نحو صديقه على شفا الانتحار يلف حول عنقه حبلاً متهالكاً، تركت لنفسي عنان المشاهدة المتفلتة من التفكر بأي كتابة أو أي نقد.يذهلني دريد لحام ابن الـ 85 عاماً، واقفاً أمامنا في الصالة قبل العرض، ترافقه صباح الجزائري وكندة حنا وأيضاً المخرج باسل الخطيب ليعلن عن «دَين لبنان عليه الذي منحه أول خفقة قلب» حين أنجبته والدته اللبنانية من مشغرة و«دين آخر لجمعية «ممكن»» التي احتضنت هذا العمل ووفرت فرصة عرضه في «بيروت مينا الحبايب». الكلمات بين مزدوجين ليست لي بل له. يُذهلني ليس لحضوره رغم رقة هذا الحضور وليس لكلماته رغم حميميتها، بل لقدراته الفنية وهو في هذه السن، فهي تفوق في أهميتها قدرات كبار الممثلين في السينما الأجنبية.
تشعر أمام أحداث الفيلم الذي يروي قصة مذيع محطة «الوطن» المتوقف عن مهنة أحبّها وأجادها بعد توقف المحطة وانتشار إذاعات عصرية، في إشارة إلى التغير في دور هذه الوسيلة الإعلامية التي مارست تأثيراً كبيراً على الرأي العام العربي إبّان الأحداث الكبرى. أفقدت الحرب المدمرة بطل «دمشق ـ حلب»، أناساً كثراً أحبّهم، فبقي وحيداً يبحث عن معنى الحياة ليجده في رحلة من دمشق إلى حلب المحرّرة، حيث ابنته الوحيدة مع ولديها والباحثة عن زوج خرج ذات ليلة ولم يعد.
رفاق الرحلة يبثون في نفسه معاني جديدة لحياة أثقلتها أهوال الحرب على وطنه. رغم التنوع الذي انعكس من خلال شخصيات العمل أي رفاق الرحلة وتناقضاتهم، إلا أنّهم أضاؤوا في جانب من سلوكهم على قيم المجتمع العربي السوري، التي تبث روح البقاء والاستمرار والمواجهة والتمسك بالأمل.
قدمت لنا الرحلة من دمشق إلى حلب، عيّنة تمثيلية إلى حد ما للمجتمع السوري الجديد. هذا المجتمع الذي لا يُمكن له إلا أن يتّكئ على الماضي، على التاريخ العابق بالكثير من الأحداث التي تعني بنظر أجيال كبيرة من السوريين الكرامة. يكفي أن يلتفت دريد لحام إلى رفاق الرحلة بنظرة عز ممزوجة بلوم قائلاً لهم: «أنا حاربت في 67 وفي 73». هذه العيّنة ضمّت نساء ورجالاً، شباباً وكباراً في السن، مدنيين وعسكريين، مهمشين ونخبويين، الميسور والفقير. ورغم الاختلاف جمعتهم هذه الطريق التي تربط دمشق بحلب، هاتان المدينتان اللتان تحملان دلالات معنوية وسياسية وتاريخية عميقة في وجدان السوريين وواقعهم.
تخيلت نفسي بينهم. تخيلت بما يسمح لي هذا العمل الذهني المسمى خيالاً، أن أرى كم استفز وجود دريد لحام كبطل للفيلم باقي الممثلين الذين أثبتوا أنهم أبطال في تأدية أدوارهم، فكان أغلبهم على مستوى متجانس ومتقارب، إذ قدموا أجمل ما لديهم. دريد لحام الأب والمثقف والصديق ورفيق رحلة دمشق ـ حلب، الذي أرهقته سنوات العمر والحرب، لكنه بقي متمسكاً بثوابته كابن بلد. صباح الجزائري السيدة المحترمة الأنيقة المظهر، المريضة بالسرطان تحمل كفنها وورود قبرها كي تموت وتدفن في حلب. العروسان اللذان تأخرا على زفافهما. الشابة المغنية التي تذهب لإقامة حفلة في مدينة حلب مع عدد من أعضاء الفرقة. المذيع الشاب الذي يلاحق الفتيات. الشابة المهووسة بوسائل التواصل الاجتماعي. الشاب الذي يدّعي أنه من الأمن لأنّ شكله يوحي للناس بذلك، لنتبين من خلال حادثة أثناء توقف الحافلة بأنه يعمل في مقهى للنرجيلة. الرجل الذي يتحدث بإحدى لهجات ريف حلب ويرتدي العباية وهو محل شكوك دريد لحام، ليكتشف خلال الرحلة أنّ شكوكه في غير محلها: مرة أولى حين رأى ساقه المبتورة. ومرة ثانية، عندما يناديه أحدهم سيادة العميد، لنعلم بأنه ضابط في الجيش العربي السوري فقد ساقه في الحرب. إغاثة المرأة الهاربة في الطريق مع ابنها من أهل زوجها المفقود، الذين يأخذون الطفل للعمل معهم غصباً عنها. المرأة الحامل...
كانت الحرب ماثلة رغم المشهد الوحيد لانفجار المحكمة حيث نجا دريد لحام وماتوا من كانوا في انتظاره. صديقاه وابنة صديقه وعريسها، ليتحول الزواج إلى مأتم بل مآتم. ضحايا الحرب من مدنيين وعسكريين موجودون بقوة، والصراع حول تقديم حلول لتداعيات هذه الحرب، بين أطراف هذه العّينة على أشدّه. ففي الحرب، نرث المفقودين والأيتام والعمال الأطفال والمرضى والفقراء. لكن تبقى ظواهر الغناء والموسيقى والزواج والإنجاب كبيّنات على قوة البقاء وحيوية المجتمع السوري رغم الحرب الضروس التي استعرت طيلة ثماني سنوات وما زالت.
لعل هذه الحافلة المحمّلة بأناس مختلفين يتصلون ببعضهم من خلال منظومة قيم، لم تستطع الحرب أن تقضي عليها، تعبّر عن سوريا الجديدة. سوريا ما بعد الألم والدم والدمار، ما بعد إرهاب «جبهة النصرة» و«تنظيم الدولة الإسلامية /داعش»، ما بعد الانقسامات. سوريا تضحيات الجيش وصمود أهل البلد.
في فيلم «دمشق ـ حلب»، تبدو التكنولوجيا في خدمة الأفكار الفنيّة، أجاد المخرج باسل الخطيب في التعبير عن كل أوصال سوريا في جهاتها الأربع، من خلال مشهد الجسر العالي الذي تعبره الحافلة حين تصل إلى مشارف حلب. لقطة ناجحة ومكثفة، ولعل هذا التكثيف في المعنى والإيحاء ينطبق على غالبية المشاهد، التي تابعناها بكثير من الانسجام والاهتمام والمتعة، حيث كانت الأحداث الدرامية تسقط علينا تلامس حواسنا وقلوبنا وعقولنا في آن، ضمن سياق لم يخلُ من المساحات الكوميدية، رغم الألم الذي يتصاعد وصولاً إلى اللقطة الأخيرة. قضت هذه اللقطة بأن يعبر بطلنا دريد لحام مسافة ليست طويلة من حاجز الجيش إلى المبنى الذي تقطنه ابنته التي نزلت الأدراج بسرعة قياسية لتستقبله. مشى فوق الألغام، مشية انقطعت معها أنفاسنا كما حاله وحال الابنة (كندة حنا) وحال جندي الحاجز، ليرمي الحقيبة ويرمي معها الخوف ويعانق ابنته في لحظة إنسانية وعاطفية من الشوق الممزوج بالألم والرجاء.
مما استوقفني في «دمشق ـ حلب»، صورة الجندي أو الضابط التي أزالت عنها هذه الحرب فظاظة الانضباط العسكري. نراه حين يتعرف إلى شخصية المذيع (دريد لحام) كيف تذكر أنه كان يستمع إليه كل صباح مع أمه. فيطلب الضابط من المذيع صورة «سلفي»، ويتصرف في قضية تشابه الأسماء من دون العودة إلى القيادة، لأنه متيقن بأنّ الامر لا يعدو كونه تشابه أسماء. دروس الحرب سوف تكون كثيرة، ومنها ما قالته صباح الجزائري: «لما نكبر ما منعود نخاف من قول أي شيء». ها هي سوريا التي كبرت بعد سنوات الحرب ونضجت واكتسبت الدروس تتخلى عن الخوف. الصورة الأخرى التي استهولتها، مشهد الدمار في حلب وفي مناطق أخرى في الطريق من دمشق إلى حلب. مشهد أعاد إلى ذاكرتي، مشاهد الدمار بعد الحرب العالمية الثانية التي رأيتها في العديد من الأفلام الوثائقية. مشهد الدمار في حلب يشهد بأن الحرب على سوريا كانت حرباً كونية.
فيلم «دمشق ـ حلب» فيه الكثير من معاني الحياة والأمل والحب، هذه المعاني التي سرقت من مآقينا الدموع. هذه سوريا التي تستحقّ كل هذا الحب.
* «دمشق ـ حلب» في الصالات اللبنانية

* صحافية وكاتبة عربية من لبنان

[1] بدعوة من جمعية «ممكن» أطلق العرض ما قبل الأول للفيلم في «سينما سيتي» في بيروت يوم 26 شباط (فبراير) 2019، بحضور النجم الكبير دريد لحام ومخرج الفيلم باسل الخطيب والممثلة الكبيرة صباح الجزائري والممثلة كندة حنا التي أثبتت موهبتها وقدرتها التمثيلية من خلال عدد من الأعمال الدرامية الهامة. حاز الفيلم جائزة «مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي لأفلام البحر المتوسط» كأفضل فيلم عربي، كما حاز الفنان دريد لحام جائزة التمثيل الكبرى من المهرجان.