يشكل باسل الأعرج حالةً خاصة في التاريخ الفلسطيني الحديث. قبل استشهاده يوم 6 آذار (مارس) 2017، لم يكن الشاب الذي ولد عام 1984 في قرية الولجة (جنوبي الضفة الغربية) بالنسبة إلى كثيرين أكثر من حالة «شعبية صوتية». قد يعتقد بعضهم هنا أنّ في الأمر تقليلاً من قيمة الشهيد المشتبك، لكن الحقيقة أنه لم يكن معروفاً خارج أوساطٍ معينة، مرتبطة ارتباطاً جذرياً بفكرة المقاومة - على أشكالها - داخل فلسطين وخارجها. أذكر يوم التقينا للمرة الأولى بباسل، بدا الشاب الواثق بنفسه، مثقفاً عارفاً سواء بالتاريخ أو الجغرافيا الفلسطينية. اختلفنا على أمرٍ مرتبط بفلسطيني الداخل والخارج، وهي عادةٌ عربيةٌ/ فلسطينية أن يختلف سكان البلد الواحد على أمورٍ داخلية. لم يكسر الاختلاف أبداً علاقتنا، بل بالعكس قوّاها؛ وخلق نقاشاتٍ أكثر أفادتنا معاً. ماذا قدّم باسل الأعرج للثقافة الفلسطينية؟ لطالما اعتبر الفلسطينيون المثقفين طليعتهم المقاتلة. فكان جورج حبش ووديع حداد مثقفَين على طريقتهما الخاصة، كذلك كان ماجد أبو شرار، كمال ناصر، كمال عدوان، وائل زعيتر، محمود الهمشري، وبالتأكيد الكاتب الفلسطيني الأشهر - ضمن مجايليه - غسان كنفاني ورسام الكاريكاتور الفريد من نوعه ناجي العلي. استشهدت معظم الأسماء المذكورة هنا بعمليات «اغتيال» قامت بها «وحدة كيدون» (أي الحربة) المتخصصة في الاغتيالات في الموساد الإسرائيلي (معظم هذه العمليات اعترف بها الموساد لا بل تباهى بها في بعض الأحيان كما حدث بعد عملية ميونخ التي قامت بها منظمة أيلول الأسود في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في مدينة ميونخ الألمانية عام 1972، وأعقبتها عمليات «انتقام» صهيونية من مثقفين/قادة فلسطينيين تحت ما سمي «قائمة غولدا» نسبة لرئيسة وزراء العدو آنذاك، غولدا مائير). كان الفلسطيني يباهي الشعوب بأن «مثقفيه» ليسوا بمثقفين «قاعدين» إنما كانوا ما كان يسميه الشهيد غسان كنفاني بـ «المثقف الموضعي» إكمالاً للفكرة التي كتبها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي «المفكر العضوي». هنا يصبح دور المثقف طليعياً وجب عليه أن يكون متقدماً على شعبه لجهة النضال، لا خلفه. بلغةٍ مباشرة: لا يجلس المثقف العضوي/ الموضعي في المقاهي لينظّر سياسياً أو ثقافياً للمعركة، بل يقودها من الخنادق. يكتب وهو يمسك ببندقيته لا سيجاره، ينظّر لما سيحدث وهو بين المقاتلين لا بين أكواب وكؤوس المشروب في حانةٍ ما. هذا ما أعاده باسل إلى الواجهة.قبل أعوام، انتشرت صورةٌ لمواجهات بين شبانٍ فلسطينيين والعدو الصهيوني. كانت صورة باسل الأعرج هي أبرز صورةٍ في المواجهة: شابٌ يغطي نصف وجهه بالعلم الفلسطيني وتظهر نظارته فوقه وشعره الطويل بعض الشيء، مرتدياً حقيبة ظهر ويرشق العدو بحجر كبير في يده بكل قوة. لم يكن أحدٌ خارج فلسطين إلا قلةٌ قليلة يعرفون هذا الشاب الذي يعمل في مجال «الصيدلة». على الرغم من أن باسل كان آنذاك أحد رموز الحراك عبر تنظيمه للعديد من الأنشطة داخل فلسطين للمقاومة على طريقته: توثيق أهم مراحل الثورة الفلسطينية «شفوياً» (منذ ثلاثينات القرن الماضي وصولاً إلى السنوات الأخيرة لاستشهاده)، زيارات لأماكن عمليات ضد العدو الصهيوني مع شروحٍ وافية وأدلة دقيقة وتفاصيل حول العمليات وأبطالها؛ محاضرات توعية حول العمل المقاوم تشرح أساسيته وضرورياته، دراسات كثيرة حول ما يجب أن تكون عليه حركات المقاومة والتحرر، فضلاً عن مقالاتٍ كثيرة تؤرخ للفكرة بحد ذاتها لا ريب أن أبرزها كان «عش نيصاً وقاتل كالبرغوث». وهنا تظهر عبقرية باسل الخاصة ومعرفته بالبيئة التي أتى منها ويقاوم فيها حين استخدم كائنين من ذات البيئة: النيص والبرغوث أضاف إلى لعبة «الميديا/ الإعلام» من خلال طرقه باب الكائنين بحد ذاتهما (النيص والبرغوث) واستخدامهما للحديث عن فعلٍ مقاوم. لم يكتفِ باسل بذلك كله. بحسب ما يذكر أحدٌ الأصدقاء أنه قام مرةً بإنشاء حاجز احتجاجاً على قيام الصهاينة بحاجز مماثل قريب من منزله. يومها، أوقف باسل وحده العديد من سيارات الصهاينة وطلب بطاقات ركابها إلى أن جاء العدو وأوقفه. كان باسل مبتكراً في خلق «الإزعاج الممنهج» للعدو بكل ما أوتي من قوة. كان يعرف أن العدو يكره «الثقافة» و«المثقفين المنخرطين» المقاومين، حتى إنه خلق تعبيره الخاص «المثقف المشتبك»؛ إذ اعتبر أن الاشتباك مع العدو يجب أن يكون «سمة» المثقف، خصوصاً عبر جملته الشهيرة التي باتت بمثابة أيقونة كلامية له وعنه: «ما بدك مشتبك، لا منك ولا من ثقافتك».
لم تغتله إسرائيل إلا لكونه مثقفاً عضوياً قبل أي شيء، ومشتبكاً في كل اللحظات


ماذا بعد استشهاده؟ ما يميز باسل أنه حتى في لحظات المواجهة الأخيرة، قرر أن يجعلها مقاومةً حتى النفس الأخير. ترك رسالة خاصة تحمل في طياتها الكثير من أفكاره الخاصة والمباشرة: تحية العروبة والوطن والتحرير. اعتبر الأعرج أن العروبة جزءٌ لا يتجزأ من معركة الصراع مع العدو الصهيوني، أضاف إلى هذا البعد البعدين الرئيسيين: الوطن على خصوصيته والتحرير على مركزيته في أي قضية. إذاً هذه الأبعاد الثلاثة تجعل المعركة مع العدو أكثر مباشرة من دون لبس. هو كتب رسالة مباشرة خاطب فيها الوجدان والمخيال الشعبي المباشر: «هل هناك أبلغ أو أفصح من فعل الشهيد»، و«نحن أهل القبور لا نبحث إلا عن رحمة الله». وختم بالتحفيز على عادته: «فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتحثوا أنتم». هنا يدرك باسل بحنكته كمثقف وكمشتبك في آنٍ أن فعله «الاستشهادي» سيكون «محفزاً أساسياً لأجيالٍ ستأتي من بعده، فلماذا لا يقرن الفعل بسلوكٍ ثقافي مماثل: جملٌ مباشرة، تمتلئ بالمقاومة بكل أشكالها، فضلاً عن الفعل الاستفزازي لناحية «قوموا» و«افعلوا» و«اشتبكوا». إذا ترك باسل في رسالته القصيرة والعميقة حكمته التي تفترض العمل قبل أي شيء. بدا كما لو أنه يريد أن يغرس فكرة المقاوم المثقف الذي يختار لحظات استشهاده، ولا ريب أنه كمثقف متعمق القراءة قارب شخصيات الأبطال في الملاحم الإغريقية حين يواجهون بالأخطار المميتة: يواجهون بثبات وصلابة ثم يتركون خلفهم جملاً يحفظها الناس إلى الأبد كونها جاءت في تلك اللحظات الحرجة. هو كان يدرك تماماً بأنَّنا حضارة تمجد أبطالها حتى في خساراتهم لأرواحهم. حضارةٌ ترتكز إلى الكلمة التي تزلزل بعد فعلٍ زلزالٍ هو الآخر.
في المحصلة، أدرك باسل، كمثقف مشتبكٍ أن الثقافة هي درع المجتمع، وتحديداً المجتمع الفلسطيني قبل أي شيء، فعمل عليها بكل ما أوتي من قوة؛ وكانت هي مقتله كما كل من حملها باشتباك/ بعضوية قبله: هكذا كانت نهاية غرامشي وكنفاني وسواهما. لذلك كيف كان ممكناً لباسل أن تكون نهايته مختلفة؟ هو كان يدرك الطريق هذا ويعرف نهايته. لم تغتل إسرائيل باسل الأعرج إلا لكونه مثقفاً عضوياً قبل أي شيء، ومشتبكاً في كل اللحظات. هنا محط الرحال، ومربط الفرس.

* في الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد باسل الأعرج، تقيم «دار- المجمع الإبداعي» و«دار المودة للتحقيق والترجمة والنشر» حلقة نقاشية بعنوان «مفهوم «المثقف المشتبك»: باسل الأعرج نموذجاً». الحلقة التي تقام يوم الثلاثاء 12 آذار (الساعة 5.00 بعد الظهر) في مقرّ «دار» (حارة حريك، شارع السيد عباس، سنتر الضاحية، الطابق الخامس) يشارك فيها كل من: القائد العام للحرس القومي العربي ذو الفقار العاملي، والزميل بيار ابي صعب.