«إنها المرّة الثانية التي أحارب فيها في لبنان. سنعيد لبنان عشرين عاماً إلى الوراء. لا داعي للقلق... سنعود». هذا بعضُ ما كان جنود جيش العدو يقولونه لمراسلة «القناة 2» الإسرائيلية في مقابلات ميدانية أجريت معهم خلال استدعائهم لشن الحرب على لبنان عام 2006. كان هؤلاء الجنود ومسؤولوهم يتوعّدون بتدمير البنى التحتية، والعمارات السكنية، وقتل المواطنين اللبنانيين انتقاماً لأسرِ «حزب الله» جنديين إسرائيليين وقتل سبعة آخرين. لكن ما حصل لآلاف الجنود إثر عدوان تموز، أو لاحقاً بعد الحروب العدوانية على غزة لم يكن في حسبان هؤلاء. اضطرابات ما بعد الصدمة أو ما يُعرف اختصاراً بـ«PTSD» هو أحد الآثار الشهيرة التي خلّفتها حروب إسرائيل خلال العقد الأخير على جنودها. صحيح أن الحديث عن هؤلاء داخل المجتمع الإسرائيلي بات أمراً مألوفاً، لكن لم يسبق قبل الآن أن تحوّل الموضوع إلى مادة درامية تلفزيونية تُعرض على Netflix مترجمة إلى لغات عدّة.

الجندي الصهيوني «إنسان»
when heroes fly هو مسلسل إسرائيلي تبثّه Netflix منذ أشهر بعدما اشترته العام الماضي من «القناة 12» الإسرائيلية. يعرض العمل تأثير الحرب نفسياً وعقلياً على حياة أربعة جنود من لواء «غولاني» (لواء النخبة الأول)؛ حيث يتعرض هؤلاء خلال انسحابهم من قرية عيتا الشعب، نهاية عدوان تموز، لهجوم من «حزب الله»، فيصاب قائد الفرقة بجروح بالغة، ويضطر بقيّة الجنود للانسحاب لأن غرفة العمليات الإسرائيلية ستفجّر الموقع في غضون دقيقة.
عقب مقتل قائد الكتيبة «النخبوية»، وانتهاء الحرب، تفتح الاستخبارات العسكرية تحقيقاً في الحادث للوقوف على أسباب ما حصل. الجنود الأربعة الذين كانوا «رفاق سلاح حقيقيين» يختلفون في ما بينهم أثناء إدلائهم بحقيقة ما جرى لقائدهم. يذهب كلٌ منهم في طريقه، ويصاب أحدهم (بطل المسلسل) باضطراب ما بعد الصدمة. تتحول حياة الأخير إلى جحيم حقيقي، بدءاً من عراكه المتواصل مع أمه، مروراً بتكسر أثاث غرفته، وصولاً إلى الانفصال عن حبيبته.

الجنود الأربعة الذين يتحدث المسلسل عنهم

ما الهدف من إظهار هذه الحقيقة؟ أن يتفرج الناس وبينهم من تعتبرهم إسرائيل أعداء لها على «مأساة» جنود النخبة؟ وماذا يعني أن يُصوَّر الجندي الصهيوني كإنسان له حبيبة مستعد لأن يخاطر بحياته لأجلها وأن يطير إلى أقصى بقاع الأرض بحثاً عنها؟ لا شك في أن المسلسل كمواد تلفزيونية إسرائيلية عديدة، مُوَجّه لاستعطاف المشاهدين سواء كان هؤلاء من الغربيين أو العرب (بما أنه مترجم على الأقل إلى 12 لغة). والهدف من هذا العمل تحديداً هو أنسنة قاتل مجرم، وإزالة وصمة الإجرام عنه، في محاولة لخلق حالة من البلبلة حول شخصيته «المُعقدة» ولاحقاً في كيفية التعامل معه. وبكلام آخر، معدّو المسلسل أرادوا القول: «فكِّر بهذا الجندي، هو أيضاً إنسان يشعر مثلك، ويحب، ولديه أم تقلق عليه، هو أيضاً يكتئب ويصاب بالإحباط، وربما بالجنون».
على هذه الخلفية، يقول كاتب سيناريو when heroes fly، عمري غفعون، في مقابلة أجرتها معه «القناة 12» الإسرائيلية، إن رواية «لأجلها طار الأبطال» (أمير غوتفرويند) تتحدث عن أربعة أصدقاء ترعرعوا في أحد أحياء حيفا، وكبروا سوياً وخاضوا التجارب منذ نهاية الستينيات (بعد النكسة العربية الكبرى)، وصولاً إلى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين. ولكن غفعون يأخد جزءاً واحداً من الرواية، ليحوّله إلى السلسلة الحالية. السبب كما يقول أن «القصة قريبة إلى شخصيته من حيث الحفاظ على الصداقة وحب السفر. ليس هناك شيء مشترك بين الإسرائيليين أكثر من رفقة الجيش». ويضيف أنه «تخطى سن الأربعين، لكنه ما زال يشعر أن قصة المسلسل هي قصة جيل إسرائيلي كامل... هذه أمور إسرائيلية، ليس فقط في الجيش وإنما في المجتمع أيضاً».
يحيلنا كلامه هذا إلى أحد المشاهد في نهاية المسلسل حيث يقول الجندي «بيندا» لصديقته الكولومبية «ماريا»، إنه «يريد العودة إلى إسرائيل للمشاركة في جنازة رفيق سلاحه». وعندما تخبره أنه ليس عليه فعل ذلك بسبب إصابته وأن رفيقه الميّت «لن يعتب»، يرد «بيندا»: «أنت لستِ إسرائيلية... لهذا لن تفهمي ماذا يعني ذلك (التخلف عن جنازة رفيق السلاح)».
الهدف من العمل هو أنسنة قاتل، وإزالة وصمة الإجرام عنه


في مقابلة أخرى مع صحيفة «ماكور ريشون» يقول غفعون: «لم أشارك ولا مرّة واحدة في جنازة عسكرية. صحيح أنني حاربت في حرب لبنان الثانية (عدوان تموز 2006)، ولكنني لم أمر بتجربة مماثلة وبالأخص تلك التي تحدثتُ عنها في المسلسل». ويستدرك، قائلاً إنه «مثلي مثل آخرين سمعت قصصاً كثيرة مشابهة عن جنود إسرائيليين يعانون من اضطرابات ما بعد صدمة الحرب. معاناتهم هذه لا تؤثر فقط عليهم ولكن أيضاً على عائلاتهم».
كاتب السيناريو هو جندي سابق في لواء «غفعاتي»، يُشير إلى أنه «بعد عرض السلسلة في إسرائيل، كُثر قالوا لي إن ما حصل لأفيف (البطل) حصل معنا أيضاً في الواقع. نحن لا نتحدث عن عشرات بل عن آلاف. هناك مثلاً من قال لي إنني كنت أعامل والدتي كنكرة، كنت أرفع صوتي وأصرخ في وجهها دون أن أعرف السبب». وفي سؤال وُجّه له عن الفكرة المركزية التي تقف وراء السلسلة، وإن كان جنود الجيش الإسرائيلي يعانون جميعاً آثاراً نفسية جراء خدمتهم في الجيش، أجاب: «لا أعرف إذا كنا جميعاً نعود من الخدمة بخدوش في الروح. ولكنني أتحدث عن أمر واقعي. لكل الحروب أثمان يُسددها الكل... الجميع في كل المستويات. وأحياناً نحتاج إلى وقت طويل لنفهم ذلك».

صدمات جنود العدو تُعالج بالمخدرات
الممثل الإسرائيلي الذي لعب دور «أفيف» كان في واقع الأمر يؤدي دور شاي كوزلوبسكي (49 عاماً) أحد ضباط سلاح الهندسة التابع للواء «الناحال». وهو كما تحدث في مقابلات تلفزيونية، مُصاب باضطراب ما بعد الصدمة نتيجة قذيفة أطلقتها «كتائب عز الدين القسام» على مستوطنة «ناحال عوز» جنوبي فلسطين المحتلة عام 2006 وقتل فيها إسرائيليان اثنان. وبمراجعة بيانات «كتائب القسام» (الذراع المسلحة لحماس) في تلك الفترة، يتضح أنها كانت «معركة الوفاء للأحرار تتصدى للعدوان الإسرائيلي الغاشم ضد قطاع غزة وهي جاءت رداً على الجرائم المتواصلة للعدو الصهيوني في فلسطين ولبنان».

«أفيف» بطل المسلسل (يمين) وإلى جانبه شاي كوزلوبسكي (وسط)

في مقابلة مع صحيفة «إسرائيل اليوم»، يقول كوزلبسكي إن «الألم لا يُمحى بمرور الوقت. كنت أستيقظ ليلاً فأضرب زوجتي ظناً مني أنها «مخرّبة»... إلى يومنا هذا، ما زلت أشتم رائحة اللحم البشري المحترق. إنني أحيا في الجحيم». نتيجة ذلك، لم يستطع الخروج من بيته لفترة طويلة، حتى جاء عام 2016 الذي فيه انضم إلى جمعية (لو مفكيريم بتسوعيم بشيطَح) «لا نتخلى عن جرحى في الميدان». يُشار هُنا إلى أن أبطال المسلسل نظموا مهرجانات وحفلات دائمة للمؤسسة التي تشكو الإفلاس. إسرائيلياً، يُنظر إلى كوزلوبسكي على أنه واحد من الذين ساهموا في نشر فكرة تشريع القنب الهندي في إسرائيل للاستخدامات الطبية؛ بعدما طالب لوقت طويل السلطات المختصة بتشريعه لمساعدة الجنود المصابين بصدمات الحرب على «تخطّي معاناتهم» وهو ما حصل عام 2017. في مقابلات تلفزيونية كثيرة، تحدث كوزلوبسكي عن النبتة التي بواسطتها «استطاع أن يصل إلى أماكن الألم في ذاكرته والتعامل معها بدلاً من بناء جدار حولها»، وكيف طبّق ذلك أيضاً على جنود آخرين مصابين مثله. في المسلسل، يمثل هذا الجانب من شخصية شاي وهو شخص آخر غير «أفيف» هو «الأب الشاحب- أليشع» الذي يدير «جماعة سريّة» في قلب الغابات الكولومبية.
يُشار إلى أن الجنود المصابين، ونسبتهم من عديد الجيش 16.5 في المئة، بحسب معطيات موقع «هيلم كيرف» (صدمة الحرب)، يشكون دوماً إهمال سلطاتهم بحقهم، ومنذ مدّة ليست بعيدة تحدث موقع Mako التابع لـ«القناة 12» عن الانتقاد الذي وجهه مراقب الدولة، يوسف شابيرا، لوزارة الأمن وتعاملها مع قضية الجنود المصابين بـ«PTSD» والإجراءات البيروقراطية التي لم تثمر في معالجة حالاتهم وإنما زادتها سوءاً. وقبل أسبوع واحد فقط، نشرت صحيفة «هآرتس» العبرية تقريراً مطولاً تحدثت فيه عن أن وزارة الصحة الإسرائيلية وافقت على استخدام أقراص MDMA (يُشار إليه باسم حبوب السعادة) في علاج المصابين بـ«البوست تروما»، وذكرت أن من بين الآلاف الذين ينتظرون الانضمام إلى المسار العلاجي الجديد يوجد 600 جندي إسرائيلي مصاب.


كولومبيا... «استراحة» ما بعد المجازر؟
يلقي المسلسل الضوء على الوجهة السياحية (الرائجة) للجنود الإسرائيليين عقب نهاية خدمتهم العسكرية. وقد صوّر الجزء الأكبر من المشاهد في العاصمة الكولومبيّة بوغوتا، حيث تدور بين أشجار غاباتها حياة جنديين إسرائيليين قاتلا خلال اجتياح لبنان عام 1982، أحدهما ينتج مادة مخدرة والآخر يستعبد مجموعة من الكولومبيين لتعبئتها من أجل الإتجار بها. إلى جانب ذلك، يتحدث المسلسل عن الفساد الذي ينخر هيكل المؤسسات الإسرائيلية عامة. مثلاً، داخل السفارة الإسرائيلية في كولومبيا، هناك موظف رفيع المستوى لديه علاقات متشابكة مع شرطيين محليين ومع مافيات تجارة المخدرات الإسرائيلية في كولومبيا.
قصص المافيات وتجّار المخدارت التي تحدث عنها المسلسل ليست بعيدة عن الواقع الإسرائيلي. قبل أيام فقط، نشر موقع «تايمز أوف إسرائيل» تقريراً عن اعتقال السلطات الكولومبية لـ14 إسرائيلياً بتهمة القوادة والمتاجرة بالأطفال بغرض الجنس. وبحسب التقرير، كانت الشبكة الإسرائيلية مسؤولة عن الرحلات السياحية لرجال أعمال إسرائيليين وأثرياء وجنود في جيش الاحتلال أنهوا خدمتهم العسكرية، حيث كان هؤلاء يقيمون في منتجعات داخل العاصمة بوغوتا، ثم يقومون برحلة في السفينة، وهناك يجبرون القُصر والأطفال على ممارسة الجنس معهم لقاء مبلغ زهيد، فضلاً عن إقامة حفلات خاصة يتعاطون فيها المخدرات. هذه الحادثة تُذكر بترحيل السلطات الكولومبية قبل عامين واحداً من كبار رؤساء المافيات الإسرائيلية في الخارج، ويدعى آسي بن موش. وقد اتُّهم بأنه يستعبد فتيات وطفلات كولومبيات ومن دول أخرى من أميركا اللاتينية ويشغلهن في الدعارة لصالح جنود إسرائيليين أنهوا خدمتهم.