لوركا سبيتيحين يكثر عدد الذين يعيشون معك، يقلّ عدد الذين يعيشون فيك فتصبح وحيداً. لا وقت لتختار زاويتك المقعّرة، وتجلس فيها معك. الحديث عن جدوى الحياة، يتشابك في دواخلك. لكن لا جواب يشفيك. تتأمل الشجرة الوحيدة التي تنعش هواء المدينة، حفيفها يدلّ على تعبها، توشوشك همساً بأنك حقير وأجمل ما فيك زوالك. هكذا قالت لي موسيقى زياد الرحباني البارحة. روت لي قصتي منذ أن كنت قرداً وحتى دخلت في دورة الحياة عصفورة أو وردة. كنتُ زمناً مرّ عليه الوقت، كنت امرأة القبيلة، والعذراء، والمتبرجة تنتظر العمر على مقعد، أشعرتني الموسيقى بأنني شريرة، قطعتُ الشجرة الوحيدة التي تنعش هواء المدينة، وشوشتني: «حملتكِ بين أغصانها عارية، تلحفتِ فيأها، وأكلتِ منها ولعبتِ مع عصافيرها، وقتلتِ وقُتلت أمام عينيها، وهي حضنت الدم المراق وخبأت السرّ. وحين كبرتِ لبستِ ثوباً غريباً له أكمام وياقة وأزرار، ونبت للسانك لغة جديدة وسميت نفسك إنساناًَ. فتركتِها بلا مأكل ولا مشرب وقطعتِ عنها الهواء حتى يبست، صنعتِ من لحمها بيتاً حدوده سقف وجدران. أوصدتِ عليك الأبواب وسيّجت الضحكات بعدما كانت حدودك السماء». البارحة، رأيت الموسيقى تتسكع على أرصفة رغباتنا، تمطر لتوقظنا، تصنع لنا حلماً بعدما صارت الأحلام أوهاماً.

ذكّرتني بالموت، الحقيقة الوحيدة والمطلقة، بوحدة الذاكرة التي حالما تمتلئ ستبدأ بالنسيان. كل ما نظن أنّنا خلدناه في لوحة أو صخرة سيموت. وسيبقى الصوت الذي لا يسجن، في كل تفصيل تلتقيه وفي كل نظرة تلتصق على ثوب وفي كل قبلة عالقة بين نفسين. الصوت الذي يحملنا الى الأعلى لنرى المشهد من فوق. الخراب والدم والموت المجاني، لنرى كم أنّ ابتعادنا عن الإصغاء له حوّلنا الى أشقياء، الى كائنات مستنسخة تحركها الغريزة وتسيّرها رغبتها بالقتل. الصوت لحنه يسبق عطشنا ليعطينا الإبريق. كان زياد في صالة playroom الممتدة بلا جدران وبلا لوحات معلّقة على الجدران، أملاً بوطن فقد الأمل وصوتاً لوطن لا أصوات تعلوه إلّا النحيب، وطن كل الطرقات فيه تؤدي إما الى حرب أو إلى حرب. داخل الصالة المرتّبة كامرأة تتزين للقاء معشوقها، الناس طيبون ولا متفجرات في جعبهم، هم يبحثون عن ذواتهم الضائعة، كأنهم يلملمون أشلاء أحباء فقدوهم ذات زمن. الموسيقى أيقظت فيّ فكرة الله، نبّهتني الى أنّ اللاشيء الذي تسع رحمته الكون ويراقبنا ويحركنا كألعاب من قماش، هذا اللاشيء بذاته شيء ما، قد يكون عازفاً!
كما الألم يولد ويموت في اللحظة ذاتها، والهواء يحمل صراخات متراكمة، والأم تحدو لشعوب في رحمها، كان زياد في ما مضى أثراً للصوت الضائع، يرسم بحقيقته حقيقة الناس، فيصيرهم. مسرحياته كانت تأريخاً للبلد، شاطئ أمان، هوية لجيل يبحث عن هوية ويموت من أجل كلمة «الحرية». جيل أفقدته الحرب حتى معنى الحب. اليوم، زياد يعزف الموسيقى التي يهواها. فلا صدى للقنص بين جبل محسن وباب التبانة، ولا انفجارات، ولا انتحاريين يحلمون بالجنة الموعودة. كأن الشاطئ اختفى بفعل المدّ، وتحوّل إلى جزيرة يسكنها إنسان متعب كفر بكل شيء، إلا بالحب الذي يزفره مع كل نفس.
أما ماريو باسيل، الذي حاول دوماً إضحاك الناس من وراء أقنعة يخيطها بحزنه، فبان شفافاً، متلهّفاً ومحباً. كان بين يديه ورقة وعلى الورقة قضية مضحكة مبكية تشبهنا في أكثر حالاتنا الإنسانية انسجاماً، إنّه نصك زياد كلاماً ولحناً يحوّل الوهم الذي نقرأه في كتاب الى حقيقة نقطفها من أعلى غصن ونطالها بلا سلالم.