يسير عقرب الوقت المجهول بثباتٍ مرعب، حاكماً بأمره الكون برمّته، قاسماً الوجود إلى قسمَين: كينونة وعدم… أو وعلى مقياس البشر: ما فعله الإنسان وما لم يفعله. يمكن إضافة «بعد» على «ما لم يفعله»، في حال تكلّمنا عن إنسان لا يزال على قيد الحياة. هنا تتكسّر الأسئلة الفلسفية الأكثر عمقاً وتعقيداً، إذا استثنينا سؤال الموت. الموت الذي لا هو كينونة ولا هو عدم، بل هو الاثنان معاً.حسناً، لنخرج تدريجاً من هذه الموضوع. ما هو هامش إرادة الإنسان في ما هو موجود أو غير موجود؟ في المجتمع الاستهلاكي، ابن الرأسمالية المدلّل، ينحسر هذا الهامش. فهكذا منظومة مادّية لها ضلوع أساسي في عدم وجود الأشياء، الجميلة عموماً، حتى لو توفّرت الإرادة (وفي حال الإبداع الفني تضاف: الموهبة). في الاشتراكية، يتسع هامش الإرادة في تحديد الوجود أو عدمه، أو هكذا يُفتَرَض. وقد يكون الأمر أعقد من ذلك. لكن في النموذج اللبناني أو العربي عموماً، من الواضح أن الإرادة الخلاقة الفردية تصطدم بعنف بالإرادة الاستهلاكية الجماعية، حيث النتائج تكون لمصلحة الأخيرة بحكم الفيزياء. مناسبة هذا الكلام هو صدور ألبوم موسيقي جديد للفنان زياد الرحباني. لهذا الرجل، المؤلف العملاق، إرادة (نشاط، تفان، رغبة، موهبة، معرفة…) في الخلق، لم يصل من نتائجها إلينا سوى الفتات ولن يدرك العالم قيمتها في المدى المنظور. فالعمل الجديد الذي يحوي موسيقى فيلمَين للراحلة رندا الشهّال هما «متحضّرات» (1998) و«طيارة من ورق» (2003)، جاهزٌ للصدور منذ أكثر من عشرين عاماً بالنسبة إلى الجزء الأول منه، ومنذ أكثر من خمسة عشر عاماً بالنسبة إلى الجزء الثاني. لماذا؟ لأن زياد أنجز كل ما عليه، وبقيت الخطوة الأخيرة (النشر) التي ظلت خارجة عن إرادته بسبب انحدار الذائقة العامة، وغياب الإنتاج المتأثّر أصلاً بمزاج الأكثرية (وليس بعدم توافر العملة، طبعاً!). في جعبة زياد الرحباني ما يكفي لإصدار خمسة أو حتى عشرة ألبومات، من مواد غنائية مكتوبة وملحّنة أو حتى موزَّعة ومسجَّلة (بالعشرات)، وأخرى موسيقية جاهزة للتسجيل أو حتى للنشر.


بل إن لديه مشروع ألبوم موسيقي/ غنائي، على غرار «هدوء نسبي»، شبه جاهز منذ أقل من عقدين بقليل، مواده مسجّلة، تحتاج إلى بعض التنقيح، وله اسمٌ أيضاً! طبعاً ليس تصميم غلافه ما أخّر نشْرَه كل هذا الوقت. فبعد «إيه في أمل» (2010) مع فيروز، لم يصدر لزياد الرحباني أي عمل موسيقي. قبله بسنة، صدرت مقتطفات من حفلاته في قلعة دمشق عام 2008 (أحد أهم أعماله الموسيقية على الرغم من أنه لم يحمل أي جديد على مستوى العناوين، لكن الجديد، الجميل والمتين، كمن في التوزيع والأداء). بمعنى آخر، كاد يكون العقد الثاني من الألفية الثالثة، الوحيد الذي لم يصدر فيه لزياد أي عمل موسيقي مسجّل خلال مسيرته منذ مطلع السبعينيات، لو لم يأتِ الفرج على شكل تحية ووفاء لرندا الشهّال التي زيّنت صورتها غلاف الألبوم الذي حوى الموسيقى التصويرية لفيلمَيها الأخيرَين، وهو بالكامل من توقيع زياد الرحباني تأليفاً وتوزيعاً موسيقياً وتسجيلاً (في استوديو Notta) وإنتاجاً (Kremlin Production). أما الشراكة الوحيدة في العمل فهي ألمانية، لناحية المعالجة النهائية للصوت، حيث يمكن للمهتمّين بهذا الجانب ملاحظة الجهد الكبير والذائقة العالية للخروج بهذه النتيجة التي تجعل من الخامة العام للعمل (نبرة الوتريات والنحاسيات والخشبيات والآلات الإيقاعية) تحفة بحد ذاتها، والتحية هنا لرالف كسلر (Penguin Mastering — Hamburg).
عنوان الألبوم الرسمي هو Music From The Films of Randa Chahal Sabbagh (موسيقى من فيلمَين لرندا الشهّال صبّاغ) ويحوي 22 مقطوعة موسيقية (سنشير إليها عند الضرورة بأرقامها وليس بعناوينها) لا يمكن حصرها في نمط معيّن، لكن يمكن الجزم أن لا وجود لآلة الطبلة إطلاقاً فيها ولا حتى للدرامز (باستثناء محطة واحدة)، مقابل حضور وافر لعدد كبير من الآلات القرعية وبالأخص الأفرو-لاتينية إلى جانب الشرقية (المزهر) وحتى الغونغ (السنج الآسيوي الكبير)، علماً أنها تغيب كلياً عن نصف الألبوم تماماً. في العموم، لن ندخل في نقد لكلّ محطة في الألبوم، بل سنتطرّق إليه بشكل عام. بدايةً، يجب الإشارة إلى أنه لا يحوي أي أغنية، صحيح، لكنه سهل المقاربة سمعياً، إذ ينضح بالألحان المتينة والجميلة، باستثناء المقطوعات ذات الطابع التصويري البحت، حيث تلعب المؤثرات الصوتية، التي تنفذها آلات تقليدية (الرقم 4) أو المبنية على تنافر هارموني معقّد (الرقم 17) دوراً متقدّماً في نقل الصورة أو التعبير عن الموقف (أو المشاعر المتصلة به). هذه الأخيرة يجب أن يُربَط سماعها بعنوانها لكي تأخذ قيمتها الموسيقية الحقيقية، وهذه هي الحال بالنسبة إلى جميع المحطات الأخرى ولو أن ذلك الربط أقل تأثيراً في التلقّي.
بالتالي، واستناداً إلى النقاط الثلاث الآنفة (نسبة حضور ونوع الآلات الإيقاعية، غياب الأغنية والملامح التصويرية على اختلاف نسبها)، يميل الألبوم نحو الموسيقى الكلاسيكية (التي تبلغ درجة محاكاة حقبة محددة، كالباروك في توزيع الوتريات على طريقة باخ في مقدّمة الرقم 16، أو الحقبة الرومنطيقية في العزف المنفرد للكمان وختامه للمحطة رقم، أو الجسر الفاصل بين الحقبتَين الكلاسيكية والرومنطيقية في اللحن الأساسي لـ«طيارة من ورق»)، بالإضافة إلى الموسيقى اللاتينية في المحطات المعبِّرة عن موقف ساخر أو فرِح، مثل جينيريك «متحضّرات» ولقاء العاشقَين في ختام «طيارة من ورق» (وهذه المقطوعة لا تمتّ إلى جو المحطات الموسيقية الأخرى في هذا الفيلم بصِلَة، للدلالة على أن لقاء هذين الشخصين، الجندي الإسرائيلي العربي والفتاة الدرزية، هو أيضاً لا يمتّ إلى مأساة الاحتلال وأوزار التقاليد الاجتماعية والعائلية بصِلة). أما الباقي، ومن ضمنه التنويعات المبنية على خمسة ألحان رئيسية (ثلاثة في الفيلم الأول واثنان في الثاني)، ففيها ما فيها من براعة في التوزيع والكتابة الهارمونية وتقابل الجمل اللحنية المتزامنة (تصل في الرقم 6 إلى جمع اثنين من الألحان الرئيسية في موضوع واحد متماسك، ودعمه بجملة ثالثة جديدة للتشيلّو، قبل وصول البيانو ليختم بجملة خلّابة لليد اليسرى في المنطقة المنخفضة). هنا يبقى الملك ملكاً، متربعاً على عرشٍ من الذائقة والحرفية والمعرفة. أما نسبة الارتجال في العمل عموماً، فضئيلة جداً (باستثناء صولو لزياد على الفاندر رودز في المحطة الأخيرة)، فالشريط الموسيقي للفيلمَين مكتوب من ألفه إلى يائه، حتى في الجمل التي تحمل طابعاً فالتاً قليلاً. فهذا النوع من الموسيقى يتطلّب فهماً عميقاً جداً للموقف أو الأحاسيس المعبَّر عنها، وقدرة هائلة على ترجمتها إلى أصوات مناسِبة، وزياد الرحباني، الذي يملك خبرة وموهبة كبيرتَين في موسيقى الأفلام، والذي كتب قبل 45 عاماً تلك التحفة التصويرية في «نزل السرور» (دخول الثوّار)، لا نتوقّع منه أقل من ذلك أبداً… ولا أكثر أيضاً، لأن متابعة بسيطة لموسيقى الأفلام في العالم اليوم تبيّن قيمة هذا الألبوم، الذي يضاهي (بل يتخطى غالباً) بجماله العام وإتقان تنفيذه وتسجيله، الكثير من الشرائط التي يُتَّكَل فيها بالدرجة الأولى على الإنتاج الضخم، وكذلك على التكنولوجيا وبرامج صناعة الصوت وتضخيم الركيك.
في الخلاصة، إنه ألبوم شديد التماسك جمالياً، أي تلحيناً وتوزيعاً وأفكاراً موسيقية تصويرية وتعبيرية وتسجيلاً وعزفاً، مع تسجيل حضور بارز للـFlugelhorn والبيانو والوتريات (للتعبير عن الحزن والأسى أو البراءة والحب) والكلارينت باص والباصون (للتعبير عن الريبة والذعر والقلق والشؤم)، لكن تبقى ملاحظة سلبية وحيدة، متصلة ربما بالذائقة الخاصة، وتندرج تحت خانة الأداء بالمعنى الكلاسيكي للكملة. إنها جملة تصاعدية للكمان في المحطة رقم 19، يتم تنفيذها بفائضٍ من نظافة العزف، ما يجعلها منفّرة للأذن. وهذا «خطأ» المؤدي (أو المؤدية)، بحيث أن هكذا جُمل تُكتب عادةً تماماً كما نسمعها في التسجيل، لكنها عموماً تؤدّى بتصرّف لا يدوّنه بالضرورة المؤلِّف، بل متروكٌ تقديره للعازف، بحسب حنكته واهتماماته الموسيقية.
رحلت رندا الشهال تاركةً أفلاماً عدة، كتب زياد الرحباني موسيقى اثنين منها. الأول «متحضّرات» لم يشاهده اللبنانيون لأن الرقابة منعته، أو أسوأ من ذلك، سمحت عرضه شرط اقتطاع نصفه تقريباً! الثاني «طيارة من ورق» عُرِض في لبنان والعالم، ونال جوائز عدة، منها أفضل موسيقى تصويرية في «مهرجان أوسّير» (Auxerre) في فرنسا، لكنه تعرّض أيضاً للمنع من العرض على الشاشة الصغيرة في لبنان. أما الموسيقى… الموسيقى في لبنان ممنوعة من دون رقابة ولا زعران الطوائف والتخلّف، وصدور هذا الألبوم اليوم هو انتصار. انتصار غير موجّه ضد أحد. إنه انتصار زياد على قلقه. إنه انتصار الوجود على العدم.

* ألبوم «موسيقى من فيلمَين لرندا الشهّال صبّاغ»: تأليف وتوزيع زياد الرحباني. متوافر في جميع فروع «مكتبة أنطوان»