لطالما كانت مسألة فلسطينيي الداخل أو فلسطينيي الـ48 مثار جدل كبير في الأوساط الأكاديمية في «إسرائيل» وخارجها. يمكن القول إنّ الاهتمام الأكبر بهم بدأ إثر الانتفاضة الأولى عام 1987. بدءاً من هذا العام، فرض فلسطينيو الداخل أنفسهم بقوة في المشهدين الفكري والسياسي، ومثّلوا عقبة كبيرة أمام تكريس مفهوم «الدولة اليهودية» الذي اشتدّ الجدال حوله منذ التسعينيات.
يتناول إيلان بابه (1954) في كتابه «الفلسطينيون المنسيّون: تاريخ فلسطينيي 1948» (2011) الذي صدرت أخيراً نسخته العربية بترجمة هالة سنّو (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) تاريخ فلسطينيي الداخل منذ النكبة وصولاً إلى نهاية القرن العشرين. يهدي بابه عمله إلى الشهداء الفلسطينيين الـ13 الذين قتلتهم الشرطة الإسرائيلية مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000. وبهذا، يبيّن وجهة نظره لمن لا يعرفه بشكل واضح. سيكون الكتاب أقرب إلى الرؤية الفلسطينية في تدوين الأحداث. تلك الرؤية التي تبناها (بدرجات متفاوتة) أعضاء تيار «المؤرخين الجدد» في إعادة كتابة تاريخ القضية الفلسطينية بدءاً من النكبة. ويمكن القول عموماً إنّ بابه يقف في منتصف المسافة في التناول الموضوعي لتاريخ هذه المسألة بين بيني موريس الأقرب إلى الرؤية الصهيونية، ونورمان فنكلستين الأكثر شراسة في تبنيه للرؤية الفلسطينية للمسألة، وإن كان فنكلستين متخصصاً بنحو أكبر في المحرقة النازية. يبرر بابه عدم وجود محاولات سابقة لتدوين تاريخ فلسطينيي الداخل إلى «التاريخ القصير الأمد» الذي يمتد إلى 65 عاماً فقط، وبنحو أكبر إلى «افتقار هذه الجماعة إلى معالم واضحة لهويتها، سواء كانت عرقية أو ثقافية أو قومية أو جغرافية أو حتى سياسية». انطلاقاً من هذه النقطة، يشرح تطورات وتباينات التسمية التي ستلتصق بفلسطينيي الداخل مع تعاقب السنين والحكومات والحروب. بدأت مأساتهم عملياً مع النكبة حين كانوا يُعرّفون داخل «إسرائيل» بكونهم «الأقلية العربية»، مع ملاحظة إدراج الدين لا القومية تحت بند «الجنسية» في البطاقات الشخصية. وهنا، يختلف بابه عن زملائه من المؤرخين الجدد، وبالطبع عن المؤرخين الصهيونيين التقليديين، حين يؤكد أنّ هذه الآلية البيروقراطية كانت تترافق مع آليات قانونية وتشريعية تمييزية تعمل على تجريد الفلسطينيين من كل ما يملكون، «إما أن يخلّفوا وراءهم كل شيء، وإما أن تُسلب منهم أملاكهم»، في عملية منهجية كشفت عنها الوثائق القانونية لتلك المرحلة. وبذلك، بدأت معركة فلسطينيي الداخل المتسمة بمراحل وتنويعات مختلفة، إذ كانت ضد الإسرائيليين معركةً ضد الإقصاء بهدف تحقيق مواطنة كاملة، فيما كانت ضد النظرة الظالمة العربية والفلسطينية خارج الأرض المحتلة المتلخصة في كونهم «خونة». وستكون هذه «الهوية الغامضة» هي الأساس الذي سيستند إليه فلسطينيو الداخل في معاركهم القادمة. يؤكد بابه أنّ «غريزة البقاء هي التي سيّرت مجرى النشاط السياسي» لاحقاً. بالتوازي مع تلك الغريزة، كان لا بد من إيجاد «حاضنة» للتعبير عن صوتهم، وبالتأكيد كان الخيار هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فيما لو استثنينا جماعات أصغر (الدروز والبدو) ممن فضّلوا الالتحاق بالخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي طمعاً بمكاسب أكبر، أو على الأقل باعتراف رسمي بكونهم مواطنين كاملي الحقوق.
ابتداء من الخمسينيات وصولاً إلى نهاية القرن، بدا كأن الأحزاب هي المكان الأمثل للبحث عن «هوية محددة» لفلسطينيي الداخل، ثم العمل على بلورتها. مع اندلاع الانتفاضة الثانية، بدأت الهجرة المعاكسة من الأحزاب إلى الحياة العامة. المنظمات غير الحكومية التي وصل عددها إلى 600 عام 2001، باتت هي الساحة الفعلية لتأكيد وجود الفلسطينيين داخل البيئة الإسرائيلية العنصرية. ولا بد من الملاحظة أن إيقاع «نضال» فلسطينيي الداخل كان مترافقاً دوماً مع شخصية قيادية تضبطه. بين 1957 و1958، عمل إميل توما وإميل حبيبي على تأكيد الهوية القومية داخل «إسرائيل» عبر اعتناق استراتيجية «عدم الانخراط في صراع مع الدولة اليهودية»، ليثمر هذا العمل لاحقاً في «انتصار القومية على الأممية» بعد انسحاب الأعضاء الفلسطينيين من الحزب الشيوعي القديم «ماكي» وإنشاء «اللائحة الشيوعية الجديدة» (راكاح)، في خطوة استطاع فيها إميل حبيبي ورفاقه تثبيت هوية قومية لهم. بعد الانتصار المفاجئ لتوفيق زيّاد في الانتخابات البلدية في الناصرة (1975)، تنبّه الفلسطينيون بنحو أكبر إلى «هويتهم المفقودة»، خصوصاً بعد التصعيد الإسرائيلي الشرس، وصولاً إلى «يوم الأرض» (30 آذار/ مارس 1976) الذي مثّل البداية الفعلية للهوية القومية الفلسطينية. جاء عام 1996 ليحمل مفاجأة كبرى هي ظهور حزب وطني، ليس صهيونياً أو إسلامياً أو شيوعياً، هو «التجمع الوطني الديمقراطي» (البلد) بقيادة عزمي بشارة الذي استطاع دخول الكنيست، ثم الترشح إلى رئاسة الوزراء عام 1999، قبل نفيه عام 2007. ويشير بابه إلى أنّ السنوات الأخيرة التي تلت نفي بشارة شهدت انقسامات في صفوف الفلسطينيين، ليعود ذلك الاستقطاب الحاد بين «علمانيين» و«إسلاميين» للظهور ميدانياً، عدا المنظمات غير الحكومية التي أصبحت الوسيلة الأبرز في الصراع القانوني والوجودي لإثبات أحقية الفلسطينيين في مواطنة كاملة داخل «إسرائيل». على عكس الآراء السائدة في الأوساط الأكاديمية (كما عند سامي سموحة وإيلي ريخيس) التي تقول إن اتفاقية أوسلو «سرّعت عملية «أسرلة الفلسطينيين» في إسرائيل، وأبعدتهم عن القضايا الفلسطينية الجامعة لمصلحة القضايا المحلية»، يؤكد بابه العكس، فأوسلو زادت الشرخ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا سيما في انتخابات عام 1999، حين قام عدد كبير منهم بالتصويت بأوراق بيضاء (بعدما كانت نسبة المقترعين الفلسطينيين تصل إلى 85%) لأنهم «شعروا بعدم قدرتهم على رؤية أي فرق بين اليمين واليسار في المعسكر السياسي اليهودي»، بصرف النظر عن مواقفهم المتناقضة من ياسر عرفات والسياسات الجديدة لمنظمة التحرير. كذلك يشير إلى أن تصاعد العنف الإسرائيلي بعد الانتفاضة الثانية أسهم في ولادة جيل فلسطيني جديد شاب «يؤكد على حقوقه، ويلتزم التزاماً شديداً التعريف الدقيق بالمجموعة التي انتمى إليها بصفته مجموعة قومية»، أي إن الصراع عاد إلى صيغته الوجودية القديمة، ولم يعد مقتصراً على معارك قانونية وتشريعية صغيرة.
رغم الانتقادات القاسية التي يوجّهها بابه إلى إسرائيل التي يعتبرها «هجيناً بين دولة استعمارية استيطانية ونظام استخباري مفروض على سكانه الفلسطينيين» (يسمّيها «دولة المخابرات الإسرائيلية»)، ثمة مواضع في الكتاب يبدو فيها متردداً في اتخاذ موقف حاسم. في الحديث عن مجزرة كفر قاسم، لا نجد رأياً واضحاً بشأن ما جرى، رغم الوثائق الموجودة، إذ يبدو ميالاً إلى اعتبار أن الكولونيل يساكر شادمي (المسؤول العسكري عن العملية) «أعطى الأوامر على افتراض أنه كان يباشر تنفيذ الخطة «س – 49» التي افتضحت أثناء المحاكمة»، أي إنّ بابه يرفع المسؤولية، ولو جزئياً، عن القائد العسكري بدعوى أن الخطة صادرة عن الحكومة، حتى لو كان ذلك بنحو سرّي. ثم يعود (في موضع آخر) ليرفع المسؤولية عن شلومو بن عامي حين كان وزيراً للشرطة في حكومة إيهود باراك في الانتفاضة الثانية (2000)، بدعوى أن الشرطة «خالفت أوامره باستخدامها قناصة ووحدات هجومية مدربة على التعاطي مع إرهابيين يهاجمون المدنيين، وليس مع مدنيين يتظاهرون احتجاجاً على سياسات إرهابية»، مكتفياً بالاعتماد على أقوال ضباط في الحالة الأولى، وعلى حوار للوزير مع «هآرتس» في الحالة الثانية. بالطبع، يمثّل «الفلسطينيون المنسيّون» إضافة مهمة، خصوصاً أنّ حضور فلسطينيي الداخل قليل في المكتبة العربية. ومع ندرة المتخصصين في تدوين تاريخ فلسطينيي الداخل، وخصوصاً تاريخ النكبة، سنبقى أسرى الرواية الإسرائيلية للأحداث وأسرى الصورة النمطية عن «الآخر» الفلسطيني خلف الجدار العازل.




مع المقاطعة وحق المقاومة

ولد إيلان بابه عام 1954 لأبوين يهوديين من أصل ألماني، واضطر إلى مغادرة حيفا عام 2007 بسبب تأييده لحقّ الفلسطينيين في العودة ومقاومة الاحتلال، قبل أن يصبح أستاذاً للتاريخ في جامعة «اكستير» البريطانية. ينتمي بابه إلى «تيار المؤرخين الجدد» الذين أعادوا كتابة التاريخ الإسرائيلي والصهيوني بطريقة مغايرة للرواية الرسمية، ويعدّ من مؤيدي مقاطعة المؤسسات التعليمية الإسرائيلية.