«اقتربوا أو اهربوا. سأنقذ الغناء. سأشطف الأرض. حنجرتي الشياه الضالّة رماد المراثي والمزامير شعري. آكل القنديل أنفخ الشبح. أتسطّح على روابي الكلمة. من أجل ذلك تنهض الصاعقة لإشارتي. الموت للزهرة تلبس بابل تحتمي بمخلب الندى» (أنسي الحاج ـــ «الرأس المقطوع»)
مثل اشعيا ورؤياه، مثل صاعقة تنزل على الراعي في برية الرب تشق الثوب وترميه، أراد أنسي الحاج (27 يوليو 1937 ــــ 18 فبراير 2014) أن «يبج السد»، أن يزيح الشعراء الموتى من طريقنا ليفسحوا لنا مكاناً، أن يرينا أن تقديسنا لكل ما قد تمّ قوله شعرياً في أقصى جماليته وبلاغته هو ما يحنّطنا، ما يصنّمنا، ما يحجب أعيننا عن قوة هي أعلى، هي لغة الشعر، روحه الحيوية، طاقته الإيروسية، لأن «الشعر يعيش في لغته… الشعر ليس في تقنياته التي ألصقت به لتمييزه عن النثر مثلاً، وإنما في وظيفة ممارسته الإيمانية بوجود «عالَم خفي» نحسه لكن لا نراه. وهنا يكمن البعد الروحي للشعر. يحلم الشاعر بتكوين بشرية جديدة لا بكتابة شيء جديد فقط. الكتابة هي الجسد الجديد». مع أنسي يحلم الشعر بسِفرٍ تكوين جديد، لتكُن الكلمة بحاجة الحياة إليها لا بالشفقة ومن أجل ذلك تكون الكلمة كلها، وفوق الكل، أو لا تكون. في «لن» وجد أنسي الوقت الأمثل لاختبار الكلمة: ماذا يربح الشعر لو ربح العالَم وخسر نفسَه؟ وكان على الشعر في بيان أنسي التأسيسي في مقدمة «لن» أن يخضع من الآن فصاعداً لهذا الاختبار، وإلا «فلتمت الكلمة، فليمت الشعر، الأدب، الفن، لتنقرض اللغة، ليضمحل الإنسان الإلهي لحساب البرنامج»، قَدَران لا ثالث لهما للكلمة ــــ الشعر: إما الموت، وإما «لن»: لن تخدم الكلمة بعد اليوم نسقاً لا ترغبه، أو نصراً لا تحبه، ولن تعيش كالوردة الأليفة في الحذر والمطابقة للشروط البلاغية والاستيتيقية. فلتكن إذاً «العشبة الهوجاء» و«ليبسط النسر الجديد جناحَي ملكوته العملاق على الشرق والغرب. ليُزل هذا الوهم إذا كان وهماً، ولا يترك بارق غير الحق». لن يكون للزهرة بعد اليوم «أن تلبس برج بابل»، حين تنجح الكلمة في الاختبار سنصل إلى الأفق الذي تحدث عنه لوتريامون «يجب على الشعر أن يصنعه الكل. لا يصنع الشعر شخص واحد». حين تسقط أبراج بابل ستصبح كل كلمة مقدسة، والإنسان الذي يتصالح أخيراً مع الحقيقة، مع حقيقته، ليس عليه سوى أن يغلق عينيه كي تُفتَح أبواب الجميل والمدهِش والمقدّس.
في أول «كان هذا سهواً» (٢٠١٦) الكتاب غير المنشور في حياة أنسي الحاج، نقرأ كلمتين تصدّران القصائد: «ميتافيزيقا ودين». يقول ماتيس إن كل فن هو ديني بالضرورة. عند أنسي الحاج «الأول» لغة دينية تشبه لغة أنبياء العهد القديم المسلّحين، هجوم على اللغة وتعريتها من فصاحتها نظماً وأنساقاً وإخضاعها لتجربة بروميثيوسية قاسية ومتنوعة. في «ماضي الأيام الآتية» (١٩٦٥) و«ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» (١٩٧٠)، تتخفف لغة أنسي من القسوة التي وسمت بها في «لن» و«الرأس المقطوع» (١٩٦٣) لتبدو كالمزامير أو الأناشيد، أناشيد مشذبة من السائد والمتداول ومردودة إلى براءة البشرية الأولى في ابتهالها وتوترها وخوفها وغنائها الذي يكون تفاعلاً مع وحيٍ أول. في أعمال أنسي اللاحقة، ستكون إعادة الاعتبار للمقدس، ليس بوصفه مقدساً شكلياً وإنما بتماهيه مع جوهر الشعر الذي يضع في كل الأشياء جرعة من المطلق. الشعر أيضاً عروة تصل الكائنات، وهو وإن كان لا يمتّ بقرابة لديانة أرضية أو مذهب أو دوغما، يُشرك أصغر الأشياء في دورة الكون. في مقدمة «خواتم» (١٩٩١)، كان أنسي واضحاً في ذعره من الإنسان الجديد، الذي لم يعد من شيء يخيفه، أو يدعوه للتأمل كما الإنسان القديم الذي كان يمحض الكلمة ما تستحق من التقديس والاحترام والرهبة: «يتألق العالم التكنولوجي، العدّاد، المنقّب. يتألق العقل الرياضي في بروده الساحق، جبروته المنتصر، ويدوسني. يتألق ويدوسني أنا المتعامل بالتأمل، المصرّف أعمال الحب من أول نظرة، أنا الشاعر الجواني، الملاك الماجن، الملاك الذي بتجدد سقوطه تتجدد محبة الله، أنا المجّاني، الرغبوي، المِتعَوي الهائم، الصوفيّ الشبق، الذاتي الهشّ، أنا المكوّن من خيوط أحلام، المنسوج بتراثات الوجدان والخيال والنعومة والصلاة والحب ودموع الحنان والكفر واليأس والتمرد». بعد أكثر من خمسين عاماً على «لن»، وقف أنسي الحاج موقف المتأمل من التجربة ليعيد فوق صفحته في جريدة «الأخبار» السؤال إلى مربّعه الأول: كيف ننقذ الأدب والفن واللغة والكلمة؟ هل يكون ذلك بإنهاء لغة وبناء لغة جديدة؟ بالعنف والانتهاك يقول بأننا استنفدنا هذا كله ووصلنا إلى الابتذال والخراب، «لقد أطلقنا أفاعي الحداثة من صندوق باندورا». هل كان أنسي الذي باغته الرحيل وباغتنا في ذلك اليوم الحزين من شباط (فبراير) ٢٠١٤ يفكّر في بيان شعري جديد يستبدل فيه «لن» بـ«كيف»؟ كيف يبتعد الشعر عن لغة الدهماء والغوغاء؟ كيف نرسم له غابة يهرب إليها من اللغات الإعلامية و«التجديدية»؟ كيف نصنع له مخرجاً للطوارئ نحو لغة نعمل على انتشالها بهدوء، على إعادة تكوينها، إذا استطعنا بعد، بما كان يسميه «أمومة الصمت»؟ كيف ينتصر الشعر اليوم على نسق ونظام تضمحلّ معه اللذة الداخلية الخاصة، الفريدة، العاصية، والتي كان الشعر بمعناه الأوسع هو مغنّيها ومُغنيها، حارسها ونبيّها أبد الأبد؟ وقف أنسي مودعاً على أطلال المدينة التي أراد يوماً أن يهدمها ليبنيها، متأملاً في طغيان المدنية الاستهلاكية التي أغرقتها في بحر البؤس العقلي ــــ الروحي ــــ اللساني. لا الهذيان، لا «بجّ السدود»، لا الكتابة الأوتوماتيكية، لا شيء ممكن مثل البدايات. الشاعر الذي يصفه الناقد الفرنسي كريستوف دوفان بأنه المرادف الحداثوي العربي لما كانه بول إيلوار في الشعر الفرنسي، سينعى نفسه ببيان جدلي أخير: «ستذهب إلى مكان تسمع فيه روحك أكثر. ينتشر غيابك في قيلولة السكون ملغياً حس الحدود.
من كان يهدي قد يبطل هادياً، ولكن من أحيا سوف يظل يُحيي».