لو عرفَ أبي بما فعله كميل مبارك بي لربما كان أضرم النار به، بولاعته الـdupont المحتفظ بها من أيام يُسرٍّ ولّت، لكنه حين سألني مساء الاثنين قبل أربعة وعشرين شتاء: «تعا لهون! خبرني شو صار».• ما شي. ليش؟
• كميل مبارك قللي اليوم لما رحت ادفعلو القسط إنو عيب عليي خللي ابني يبكي كرمال المصاري. قبل ما إنزل لعندو قلت بتحكيلي شو عمل معك.
• بابا، بس إجا قللي إنو لازم ندفع القسط المأخّر نهار الاثنين.
• وصحة جنى وعيون جاد؟ (يمين والدي الذي لا يمكن لأي نقاش أن يستمر من بعده)
• إيه. هيدا بس اللي صار.
رحل أبي وهو لا يعرف؛ إضافة إلى تزويري توقيعه في جميع الشهادات والامتحانات لي ولإخوتي، وأنا أصغرهم، هرباً من القصاص؛ لم يعرف الحادثة التي رسمت الرجل الذي صرته اليوم.
شتاء 1995 ــ أجلس على المقعد في حصة الرياضيات التي تلت استراحة الظهيرة. أنتظر شيئاً ما يمنع صعودي على المنصة الخشبية لحل معادلة صعبة في الجبر. فارق بسيط في التوقيت. وأنا أنسخ ببطء أرقاماً أذكرها مليئة بالفواصل على اللوح الأسود، أوقفني الصراخ الآتي من البهو. «تابع يا نصرالله»، نهرني الكابتن جورج عبدو بصرامة. تابعت لثوانٍ معدودات حين أوقفنا هذه المرّة ناظر القسم. فتح باب الصف طالباً مني الخروج لأن الأبونا كميل مبارك يريدني. كنت أنا موضوع صراخه وغضبه. أبي تحديداً.
«قللو للأبونا بس تخلص الحصة بروح لعندو». الأستاذ عبدو بحزم مجدداً، متأكداً من مكانته في المدرسة وعدم معارضة أيّ كان له مهما علا شأنه. ليس هذه المرة يا كابتن!
دلف الكميل المبارك، راهب ذاك العهد في «مدرسة الحكمة ــ الأشرفية» في الممرّ ليسوقني بنفسه من يدي أمام أعداد هائلة من التلاميذ حشر بها الصفوف في مرحلة إدارته. «إنتَ إبنو لحسين نصرالله هالكذاب! إمشي قدامي لإلّك. بركي بيفهم أبوك إنو ما بقا يتأخر بالقسط». مع إصراره على تكرار الصراخ باسم والدي حسين.
ساقني الأب الأعلى إلى غرفة المحاسبة في قسم الإدارة. وضعني على بابها وأوصى العاملين هناك أن لا يتواصلوا معي منتبهين إلى بقائي واقفاً باستقامة وعدم السماح لأطراف المراهق ابن الرابعة عشر شتاء أن تستريح ولو على الأرض لحين انتهاء الدوام عند الثانية وعشر دقائق. بكيت دون توقف حتى انقطاع النفس. جبران خليل جبران ينظر إليَّ من حيث عُلِّقَ على حائط في صدر الصرح العريق. كرهت النبي من يومها؛ جبران.
رن الجرس. عرق بارد سال على جسدي الهزيل فركضت إلى الباص وهربت إلى سريري أفكر. لماذا أنا دون إخوتي الاثنين معي. لماذا ليس أي منهما؟ ما هذا الحظ العاثر. لماذا لم يكتف بالإذلال الأسبوعي الصباحي حين كان يُنادى علينا بالأسماء لنخرج من الصفوف المرصوصة كالعسكر في الملعب الكبير. لماذا! يا إبنو لحسين... حسين... حسين. لماذا إصرار أبي على إبقائنا في مدارس تفوق إمكاناته بعد تعثّر أحواله المالية؟ تنهمر مشاهد القهر الكثير. عندما أرافق ابني اليوم إلى مدرسته، أذكر حين كنت في سنه وقبل انتهاء الحرب الأهلية، كنا ننتقل كل يوم من منطقة في جوار صيدا إلى «مدرسة القديس يوسف» في بيروت. أوصلنا أبي نحن الخمسة واعداً إيانا بالعودة في وقت الاستراحة لإحضار الطعام. يرن الجرس معلناً انتهاء الاستراحة. يركض جميع التلاميذ إلى صفوفهم. وأنا لا أزال أقبض بيدي على السور الحديدي لأنّي على يقين بأنّ والدي سيفي بوعده.
العوارض المزمنة ــ كنت اعتقدت أن كل هذا ذاب. لكن الوجع الباقي خرج دفعة واحدة أمام المعالج النفسي في عام 2006. بعد أن شاهدت طيف الأب كميل بكثرة وقد أصبح مونسينيوراً على شاشة التلفاز محرّضاً على الأخوّة والتعايش وقيم الإنسان وأن نحب بعضنا بعضاً كما أحبنّا يسوع المسيح. صرت أنفعل وأتعب من شدة التأثر لمقاطع من أفلام عن وجع الحياة. أدمن إعادتها في سادية لن تنتهي ما بقي الألم. أحلم في اليقظة فأشتهي شجاعة جودي فوستر للانتقام من كل شيء بأي شيء في فيلم The Brave One. وأرسم نهاية جميلة لحياتي كويل سميث في Pursuit of Happiness. صنعت إطاراً لمقالة سامر أبو هواش «لو كنت إميلي بولان»، علقته فوق مكتبي ولا يمكنني أن أشرح لأحد ما المقصود! ما زلت لليوم أبكي لا إرادياً كلما أردت الذهاب إلى مدرسة ولدي لأطلب كما يفعل جميع الأهل، جدولة الأقساط المدرسية. من العوارض أيضاً أنّني حين انتظرت في الصف على باب المساعدة الاجتماعية في «جامعة الروح القدس» (الكسليك) وكانت سنتي الأكاديمية الرابعة. دخلت وانهرت في مكتبها قبل حتى أن أبدأ بالكلام. لم أسأل عن اسم تلك الموظفة التي استقالت من مهمتها في اليوم التالي لعدم قدرتها على الاحتمال أكثر وعدم تجاوب السلطة الجامعية مع محاولة مساعدتنا اجتماعياً. كنا كثراً.
تضاءل عالم جورج زريق. أو ما بقي منه. سيحمل أولاده الصوت الجارح في قلبهم طالما هم أحياء. ستسكنهم المرارة ولن يعزّيهم أنّ أباهم الذي في السما امتلك شجاعة الاعتراض فكلفه ذلك حياته وأرواح عائلة تسير في أجساد ذابلة. موت جورج ككل حادثة تدوّر لي أيام الشتي. هو رحل وسيبقى المونسينيور. أشاهده يحتد دفاعاً عن أفكاره في العلن. أبتسم. فما حصل واقع لم يعد بالإمكان تغييره. وما سأفعله أن أجنّب ولدي كاهناً مثله...

* عنوان مجموعة قصصية لمحمد عيتاني صادرة عن «دار الفارابي»