خلال الأشهر القليلة الماضية، تفاقمت ظاهرة الاغتيال السياسي في العراق. بعد الانكفاء الجزئي لانتفاضة الجنوب العراقي المطلبية السلمية، وخصوصاً في محافظة البصرة، سقط اغتيالاً أكثر من خمسة وعشرين من قادة وكوادر الانتفاضة. كما اغتيل عدد من المحامين الذين تبرعوا بتولّي الدفاع عن المعتقلين مجاناً. وكان آخر مَن تم اغتيالهم في البصرة برصاص «مجهولين» الشيخ وسام الغراوي؛ وهو رجل دين شاب، عُرف بآرائه الوطنية والاستقلالية وتحريضه القويّ ضد نظام حكم المحاصصة الطائفية والتبعية والفساد. كما اغتيلت الناشطة سعاد العلي في مدينة البصرة أيضاً، على يد مسلحين بواسطة مسدس كاتم للصوت، ولم يُكشف عن الجناة وهوياتهم ولم يُعتقل أحد من المشبوهين أو المتّهمين بارتكاب هذه الجرائم. ومن بين المحامين الذين اغتيلوا المحامي المعروف بتبنّيه لقضايا المعتقلين من المتظاهرين جبار الكرم وسط البصرة، وفي بغداد اغتيل المحامي حمزة هتلر الجابري، وفي كركوك اغتيل المحامي خلف الجبوري رئيس اتحاد الحقوقيين العراقيين.
من جرائم الاغتيال السياسي التي طالت المثقفين في العراق بعد الاحتلال الأميركي والقديمة نسبياً، تُسجل جريمة اغتيال الباحث وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، ومستشار وزير الثقافة، كامل شياع، بتاريخ 23 آب (أغسطس) 2008، وقد حُفظ ملف هذه الجريمة، مثلما حُفظت ملفات مماثلة كثيرة في تلك السنوات الملتهبة، والتي عاثت فيها قوات الاحتلال الأميركي والإجرام التكفيري والاقتتال الميليشياوي فساداً وقتلاً وتدميراً.
أما في العامين الماضيين، فقد شهدت ظاهرة اغتيال واختطاف وتعذيب وتهديد المثقفين والمدوّنين والناشطين المعارضين تصاعداً مأساوياً. ففي أيلول (سبتمبر) 2017 اغتيل الفنان والممثّل المسرحي الشاب كرار نوشي، في شارع فلسطين في بغداد، بعد اختطافه من قبل جهة «مجهولة» لمدة يومين، وقد عُثر على جثة الشاب المغدور ممزّقة وملقاة في مكبّ للنفايات وعليها علامات التعذيب. والفنان المغدور واحد من ستة فنانين عراقيين على الأقل تمّت تصفيتهم اغتيالاً بعد الاحتلال الأميركي وهم: داود القيسي وهو من أنصار النظام السابق، وقُتل بعد بضعة أشهر على احتلال بغداد، وفي 18 كانون الأول (ديسمبر) عام 2006 اختُطف وقُتل المخرج والممثل المسرحي مطشر السوداني، وفي العام ذاته قُتل الممثل الكوميدي والمخرج المسرحي والتلفزيوني العراقي المعروف وليد حسن الجعار. وكان الجعار قد دأب - في برنامجه التلفزيوني «كاريكتير» - على السخرية من جميع الأطراف الفاعلة في العراق، سواء كانت قوات الاحتلال الأميركية، أو الجهات المسلحة وتنظيم «القاعدة»، ولم يوفر من نقده وسخريته مسؤولي النظام الجديد الذي جاء به الاحتلال. وقد اتُهمت رسمياً بقتله جماعة مسلحة على علاقة بنائب الرئيس العراقي آنذاك والمحكوم غيابياً بالإعدام على خلفية «جرائم إرهابية» طارق الهاشمي. وفي 26 أيار (مايو) من عام 2007 قُتل اغتيالاً الخطاط العراقي المعروف الحاج خليل الزهاوي، صاحب المدرسة المعروفة في الخط العربي الحديث. وبتاريخ 8 أيلول (سبتمبر) عام 2011 قُتل الفنان المسرحي والإعلامي اليساري المعروف هادي المهدي في منزله من قبل أشخاص اقتحموا منزله. وقالت الجهات الأمنية إن الجريمة ارتُكبت لأسباب جنائية لا علاقة لها بالسياسة ولكن هذا الزعم لم يصدّقه كثيرون. ومن نافلة القول إن غالبية جرائم الاغتيال التي ذكرناها هنا قد سُجّلت ضد مجهولين ولم يتم الكشف عن المجرمين الذين ارتكبوها ويقدموا إلى القضاء، أو أنها اعتُبرت أحداثاً جنائية أو ذات خلفيات عشائرية.
في الأشهر القليلة الماضية، تفاقمت هذه الظاهرة، وطالت الوفيات المشبوهة التي احتُسبت ضمن ملف الاغتيال، شخصياتٍ بعيدةً عن السياسة، كما حدث في وفاة مقدِّمة البرامج وطبيبة التجميل رفيف فاضل الياسري، في ظروف غامضة أثارت الكثير من الجدل. وقيل حينها إنَّ المتوفاة ذهبت ضحية عملية تسميم إجرامية. ومثلهما توفيت رشا الحسن الطبيبة المتخصّصة في جراحة التجميل. أما ملكة جمال العراق السابقة، وعارضة الأزياء، تارة فارس، فقد قُتلت بثلاث طلقات نارية في الفترة ذاتها. وقد تضاربت الأقوال والاجتهادات في أسباب ودوافع وهوية منفّذي هذه الجرائم، وذهب بعضها إلى اتّهام أطراف ومنظمات تحريمية أو تكفيرية إسلامية محمية من جهات نافذة في الحكم. لكن الجهات الأمنية لم تكشف عن معلومات مهمّة ومفيدة في هذا الشأن، ولم يُقدّم الشخص الذي قيل إنه اعتقل على خلفية اتّهامه بجريمة قتل تارة فارس إلى القضاء ليحاكم بشكل علني وشفاف.
لفهم هذه المجزرة بحق المثقفين العراقيين، ولتفكيك هذا المسلسل المأساوي من جرائم الاغتيالات، سيكون ضرورياً ومفيداً وضعها في السياق السياسي والاجتماعي والأمني الذي أعقب الاحتلال الأميركي للعراق. فمع الاحتلال، بدأت عملية تدمير منهجي للدولة العراقية ومؤسساتها. عملية بدأت بقرارات حل الجيش والمؤسسات الأمنية، ما أدخل الوضع الأمني في البلاد في حالة خطرة من الفوضى والتشظّي وانعدام الأمن الشامل، بلغت ذروتها في ما اصطلح عليه لاحقاً بسنوات الجثث بعد سنة 2005. في هذه السنة وما تلاها، ساد القتل على الهوية الطائفية، واستبيحت كافة مؤسسات الدولة وميادين الحياة، وتلاشت الحريات الفردية والعامة أو كادت، وسط عجز تام من المؤسسات والأجهزة الأمنية التي شكلها الاحتلال وحلفاؤه المحلّيون سريعاً وكيفما اتفق. كان من نتائج ذلك انتشار الشبكات التجسسية والخلايا التخريبية الأجنبية في طول البلاد وعرضها. وشاركت بعض هذه الخلايا والشبكات في تأجيج الاستقطاب الطائفي، فكانت عناصرها، وخصوصاً في فترة السفير الأميركي والمعروف بكونه مؤسس فرق الموت في أميركا اللاتينية جون نيغروبونتي، تقتل عراقيين من هذه الطائفة يوماً، لتقتل في اليوم التالي أو في اليوم نفسه عراقيين من الطائفة الأخرى، ليدوم ويستعر الاقتتال ويترسّخ الاستقطاب الطائفي. إنَّ ما نقوله هنا مهمّ لفهم ما حدث في سنوات الاحتلال الأولى، وما زال يحدث حتى الآن، وهو سيكون مفيداً لمن يريد أن يؤشّر على أحد الأطراف المتّهمة بالمشاركة في ارتكاب المقتلة التي يتعرّض لها المثقفون العراقيون، وهي ليست مجرد شائعات وأقاويل، بل أحداث موثّقة ومعروفة للعراقيين ولغيرهم ومنها هذه الحادثة التي كان أبطالها عسكريين بريطانيين من مخابرات القوات الجوية:
في 19 أيلول (سبتمبر) 2005، وفي مركز محافظة البصرة، تنكّر جنديان من مخابرات القوة الجوية البريطانية بملابس مدنية عربية، على طريقة «المستعربين الإسرائيليين» المتخصصين في قتل الفلسطينيين. وقام العميلان البريطانيان بإطلاق النار على رجال الشرطة العراقية، فقتلا ضابطاً وأصابا الآخر بجراح خطرة، بهدف تحويل الاتهام بالعملية لسكان من طائفة العرب السنة في البصرة. وقد فاجأت قوة من رجال الشرطة العراقيين مدعومين بمواطنين مدنيين عراقيين العسكريين البريطانيين وألقت القبض عليهما، واقتيدا إلى سجن صغير في مخفر شرطة «جاميت» في البصرة. وبعد هجومين بريطانيين بالدبابات والمشاة، تم تحرير الجاسوسين المعتقلين، ومعهما أطلق سراح 127 معتقلاً آخر وقتل في الهجومين عدد من رجال الشرطة والمدنيين العراقيين ممن شاركوا في المعركتين وختمت القوات البريطانية عمليتها بهدم السجن العراقي وتسويته بالأرض.
من جهة أخرى، كان لانتشار السلاح الخفيف والمتوسّط وحتى الثقيل بين السكان والجماعات والفصائل المسلحة التي تكاثرت تأثيره المباشر في تردّي الوضع الأمني، وقد زاد من ترديه الدور الفوضوي والتخريبي الذي قامت به الشركات الأمنية الأجنبية المكونة من مرتزقة وذوي سوابق إجرامية. فقد تورّطت هذه الشركات في ارتكاب مجازر كبرى معروفة كمجزرة «ساحة النسور» في بغداد في 16 أيلول (سبتمبر) سنة 2007، والتي ارتكبها مرتزقة شركة «بلاك ووتر» الأميركية وراح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى من العراقيين.
وبالعودة إلى جريمة قتل الأديب علاء مشذوب في مدينة كربلاء الجنوبية، نسجل أنها جاءت في السياق العام ذاته، وحملت العديد من العلامات التنفيذية ذاتها التي ظهرت مع العديد من الجرائم السابقة. ولكنها أشارت أيضاً إلى استعداد جهات وأوساط سياسية داخل وخارج العراق لتثمير واستخدام هذه الجريمة ومثيلاتها لخدمة أجندات سياسية وأيديولوجية خاصة بها حتى قبل أن تجفّ دماء الكاتب المغدور. لقد سارعت أقلام وجهات وصفحات على مواقع التواصل لتتهم جهة واحدة بعينها وهي الفصائل المسلحة الإسلامية الشيعية الموالية لإيران، وبعضها سمّى فصيلاً بعينه هو «عصائب أهل الحق». ولكن هذه الجهات التي وجهت الاتهام لم تقدم دليلاً أو قرينة معقولة وملموسة على اتهامها غير الهجاء «العلمانوي» والليبرالي التقليدي بل حتى القومي العنصري لمن يصفونهم بـ «الظلاميين الإسلاميين» أو «عملاء الفرس المجوس» في محاولة لاستخدام دماء الكاتب المغدور رافعة لخدمة أغراض أيديولوجية وسياسية. وفي هذا الإطار، حاول بعض المدونين أن يروجوا منشوراً نشره الكاتب المغدور قبل أيام من اغتياله على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي، وأورد فيه اسم الزعيم الإيراني روح الله الخميني، وقالوا إنه نال منه في المنشور. ولأن المنشور ـــ وهو مقطع من إحدى روايات الكاتب كما قيل ـــ يخلو من أي إساءة إلى الخميني كما سنعرض بعد قليل، فقد لفّقت أطراف مجهولة مقالة أخرى مكتوبة بلغة سوقية ومبتذلة لم تُعهد أبداً في كتابات الراحل علاء مشذوب، من دون أن يثبت هذه الأطراف أنه هو من كتبها فعلاً. أما المنشور الذي كتبه، وما يزال منشوراً على صفحته، فنصّه هو الآتي «علاء مشذوب‏ ١٧ يناير‏، الساعة ‏٦:٠٦ ص‏: كانت عندي فكرة ضبابية عن هذا الزقاق الذي سكنه الخميني؛ وهو فرع من الزقاق الرئيس والطويل والذي يطلق عليه «عگد السادة»، هذا الرجل سكن العراق ما بين النجف وكربلاء لما يقارب ثلاثة عشر عاماً، ثم رحّل إلى الكويت التي لم تستقبله، فقرر المغادرة إلى باريس ليستقر فيها. ومن بعد ذلك صدّر ثورته إلى إيران عبر كاسيت المسجلات التي حملت اسم «ثورة الكاسيت»... ليتسنم الحكم فيها، ولتشتعل بعد ذلك الحرب بين بلده، والبلد المضيف له سابقاً».. في هذا المنشور القصير، لا توجد أي إساءة، لا لإيران ولا للخميني ولا لأنصاره الذين استولوا على الحكم وانفردوا بالثورة الإيرانية ضد حكم الشاه العميل للغرب والصهيونية. ليس في كلام مشذوب أي إساءة بل تساؤلات ووصف بلغة روائية لمكان معين، حتى أنه لم يتّهم الخميني بإشعال الحرب العراقية الإيرانية وإنما استخدم عبارة «ولتشتعل بعد ذلك الحرب».
ميليشيات غُسلت أدمغتها وشحنت شحناً بالفكر التكفيري والحماسة الدينية وقتلة مأجورون لصالح مخابرات دول أجنبية


إن ما نقوله هنا ليس تبرئة لمجموعة مسلحة بعينها، أو لغيرها من الفصائل المسلحة، ولكنه أيضاً ليس تأكيداً أو تبنياً للاتهام، فهذا شأن السلطات الأمنية والقضائية، غير أنَّ المجموعات المسلحة تبقى طرفاً متّهماً ومشكوكاً فيه بقوة، إلى جانب خلايا وشبكات حزبية سرية تابعة للمجموعات التكفيرية أو التابعة لفلول «حزب البعث». ويبقى الطرف المتهم أكثر من غيره هو الطرف المخابراتي الأميركي والأجنبي عموماً. وفي وضع معقّد كهذا، ستكون أي محاولة لإدانة طرف واحد معين، أو تركيز نيران الإعلام عليه تبرئةً غير مباشرة للأطراف الأخرى. إن ما يحسم الأمر في حالة كهذه هو أن تقوم المؤسسة الأمنية بدورها فتعتقل القتلة، وتكشف عن هويتهم أياً كانت وعن كافة التفاصيل الأخرى للرأي العام، وحينها، سيكون من حق الجميع أن يقولوا كلمتهم. أما وأن هذا لم يحدث بعد، وقد لا يحدث قريباً، فلا بد من التوازن والحياد ووضع جميع الجهات المشكوك بها تحت الضوء الإعلامي!
إن توجيه الاتهامات، والقيام بالتحقيق في جرائم اغتيال المثقفين وغير المثقفين ليس مهمة الكاتب والراصد والمؤرخ كما قلنا، فهذا الأخير إنما يطرح أفكاراً ويحلّل معلومات وتخمينات مستندة إلى أدلة ودلالات واضحة. وفي هذه الحدود، وفي سياق الحالة العراقية الذي تقدم وصفه، وكتخمين أولي، يمكن أن نرجّح أنَّ من ارتكب الجريمة الأخيرة قد يكون واحداً من اثنين على أقل تقدير: عنصراً أو أكثر من الميليشيات والفصائل المسلحة ممن غُسلت أدمغتهم وشحنوا شحناً بالفكر التكفيري والحماسة الدينية، أو - هذا هو الاحتمال الثاني- قد يكون القاتل عميلاً مأجوراً لمخابرات دولة أجنبية ضمن هذه الفصائل أو خارجها. إنَّ مسلسل الجرائم التي استعرضنا عدداً منها يدخل ضمن مخطط يستكمل به أعداء العراق تدميره وتفريغه من طاقاته الإبداعية والثقافية وحتى الأمنية كما حدث في مسلسل اغتيال عشرات الطيارين العراقيين والأطباء والخبراء ذوي التخصصات العالية والنادرة. ولا يمكن تبرئة أميركا ودولة العدو الصهيوني وبعض الدول الإقليمية المجاورة للعراق من المشاركة في تنفيذ هذا المخطط. وفي خلفية مشهد الخراب العميم، ينوس الطرف الأخطبوطي المسؤول عن اغتيال المثقفين العراقيين ضمن عملية طويلة ومعقدة ودموية هي اغتيال العراق ودوره وتاريخه وثرواته: إنه الاحتلال الأميركي الذي بدأ سنة 2003، وسيتواصل هذا الاغتيال طالما استمر نظام حكم دولة المكونات الطائفية الذي جاء به هذا الاحتلال، ذلك لأنه نظام يتنافى وطبيعة المجتمع العراقي التعددي المتنوع والذي لا خلاص له من المجازر والنكبات والتلاشي الحضاري إلا بقيام دولة مواطنة ديموقراطية على أنقاض دولة المكونات ودستورها الاحتلالي!

* كاتب عراقي