وداعاً أمين الباشا... شوف تشتاقك بيروت بشمسها وعصافيرها وبحرها وناسها، سوف تشتاق لجلوسكَ في مقاهيها بين أوراقك وألوانك. كنّا حتى البارحة لا نصدّق أنك ستغمض عينيك عن فجر بيروت التي لطالما أحببت وترحل، آخذاً معك الذكريات الحلوة وصفحات مجيدة من زمن الثقافة في عصرها الذهبي، وقائمة من الانجازات الفنية والمعارض المحلية والعربية والعالمية والجوائز والأعمال المتحفية التي كانت تحتاج أعماراً، بل أزمنة لكي ترى النور. لأن موهبتك لا تتكرر، لأن وجودك الأنيس ومزاجك وطباعك المحببة المجبولة بالسخرية والطرافة والفطنة والمحبّة العميقة للآخر، فأنت استثنائي بين فناني جيلك بانحيازك نحو سرعة الارتجال في قطف الأشكال وشفافية النور وبساتين اللون وأزرق البحار ودفء الأمكنة. كنتَ تجاهر دوماً بانك بخيلٌ وتضحك على نفسك لكي تضحكنا، لكنك كنت كريماً علينا بفنّك بسخاء قلبك، بشغفك وثقافتك وأَغْنيتنا بفرحك وتوقك للحرية. رحلتَ يا من كنتَ تقول: «أحب أن أعيش أكثر لكي أرسم أكثر» كما كنت تردّد أيضاً «أرسم تلقائياً كحاجة يومية للتنفس والتعبير»... نتذكّرك في رحيلكَ الذي لن يترك سوى بصماتك المحفورة عميقاً في ذاكرة الفن التشكيلي في لبنان على مر الأجيال.
رحلته مع الطبيعة
أمين الباشا (1932- 2019) معلمٌ من كبار فناني الحداثة في لبنان، تميز بالغزارة في الإنتاج، والتنوع المدهش في الخامات (مائيات ورسوم وزيتيات ومجسّمات خشبية وسجاديات)، لكنه عُرف كأبرع رسام بالمائيات بعد الفنان الانطباعي عمر الأنسي. كرّمه في العام الماضي متحف نقولا ابراهيم سرسق في معرض شكّل الإطلالة الأولى له في بيروت بعد غياب دام طوال عقد من الزمن عن مشهدية المعارض، عكس تحولات مساره الفني الذي يعود إلى أواخر خمسينيات القرن العشرين. إذ أنّ التجوال بين لوحات أمين الباشا أقرب ما يكون الى النزهة بين حدائق ألوان الفنان وطبيعته المفتونة بالحب والبهجة والضوء. ولطالما كان انتقائياً في اختيار عناصر الطبيعة والأشكال ومعالم الأمكنة والمَشاهد التي تنادي مخيلته وتستدرجها إلى الرسم. لذا فهو لا يرسم ما تراه عيناه فحسب، بل ما تكشفه نزواته في وثباتها الحرة، صوب عالمٍ مجرد إلا من الخيال واللعب والتّلذذ بالقبض على الصُّور العابرة والأشياء الهاربة من الذاكرة، بحُرّية مطلقة تنتسب غالباً إلى جماليات مبنيّة على العبث بمواضع الأشياء والتحايل على حقيقة صُوَرِها ومنطقها وترتيبها. هكذا أدخل أمين الباشا الطبيعة الى منطق الفسيفساء حين رسم جداريته الشهيرة المسماة «الفصول الأربعة» التي زينت في مطلع الثمانينيات مطار جدّة الدولي بعد تنفيذها من قبل المشغل الفرنسي الدولي للنسيج روبير فور.
لطالما كانت بيروت مُلْهمة الباشا ومرآة حياته وذكرياته الغالية ومحط نزهاته وأرجوحة طفولته ومرتعها المطمئن. والمدينة ليست بحراً وناساً وأمكنة ورواد مقاهٍ واحياء شعبية فحسب، بل عطر يتضوع بين الرياحين والأفياء وصور من خزائن الماضي والحاضر. ليست خريفاً وربيعاً بل حدائق ونساء وشرفات وأصص أزهار. إنها العمر كله الآتي من ذهب الأيام الماضية، بل من كنز الطفولة الضائعة وشباب الموهبة وينابيع الإلهامات الجامحة ومن دفء الأمكنة وحنينها.
في أعمال الباشا ثمة دائماً ناس وأمكنة وبيوت وشرفات وضوء يتسرب داخل الحجرات، حيث يغفو الأثاث العتيق للجدّات على وسائد مطرزة بحكايات أزرق القيشاني وزخارف الثمار والأزهار. والمفارقة الغريبة أنه كلما ارتفع منسوب الموتيفات الزخرفية في مائيات الباشا كلما ازدادت تألقاً وجمالاً. فثمة مكانة كبيرة للزخرف وثمة مكانة أهم لثغرات الهواء ومسارب العين في تنقلاتها بين النور والظلال.

ما بين بيروت واسبانيا
إن لم تكن بيروت، فإسبانيا هي عاصمة الانتماء العربي بالنسبة لأمين الباشا بجذورها الثقافية وقصورها وآثارها وحصونها وتاريخها الأرابسكي المدجن. فقد شكلت الأندلس ينبوعاً للإلهام من خلال استيحاء فن المنمنمات والمخطوطات القديمة المحفوظة في مكتبة الاسكوريال. فكان من أبرز إنجازاته لوحة: «تحية الى موسيقى زرياب»، عبارة عن عمل جداري يعود الى مقتنيات متحف «معهد العالم العربي» في باريس 1987. قضى امين الباشا صيفاً كاملاً برفقة زوجته الاسبانية انجلينا في رحلة شبيهة بنشوة الحالمين بالفردوس المفقود، ذلك لأن مدينة قرطبة القديمة كانت تذكّره ببيروت القديمة لكثرة حدائقها التي تعانق بيوتها الحجرية. فكانت رحلته بمثابة رد لزيارة الفنانين المستشرقين على حد قوله لرسم شاعرية الحياة المتغلغلة في الآثار العربية الباقية في المدن الأندلسية.
لعل شمس الأندلس وألوان حدائقها بالنسبة لأمين الباشا كانت شبيهة برحلة اكتشاف ماتيس لشمس طنجة وبيسكرا في شمال افريقيا والشغف الزخرفي هو ما يجعل التشابه بينهما واقعاً. فقد عرف أمين الباشا كيف يختار منذ البداية توجهه الفني أثناء دراسته في باريس أوخر الخمسينيات، لاسيما وأنه عاش الصراع ما بين التشبيه والتجريد بمختلف مدارسه واتجاهاته. فخاض في التجريد لكنه ما لبث أن أخذه إلى منحاه الشرقي الخاص الذي أخذ يتبدى على شكل مربعات ذات مضامين زخرفية ورسوم بيانية تعكس فصول الطبيعة والغيوم والطيور، حيث يخترق الخيال الحرّ العالم المرئي، كما تخترق السحب والعصافير العابرة شموس الطفولة.
الطيور رفقاء النساء وهي تحلق في فضاءات الباشا على أجنحة الخيال، كرموز للدّعة والحب والوّد، تظهر في حر الظهيرة مع مستحمات الشاطئ، وترافق أعمال السحر التي يقوم بها أبطال أوراق اللعب، الذي ينثرون ألاعيبهم كالفسيفساء على رقع شطرنجية في متواليات الفصول الأربعة. وفصول امين الباشا، ليست ككل الفصول، لأنها من مادة الفردوس اللوني، لا مكان فيها للحزن، بل للدعابة والسخرية والتسلية والاستمتاع بأوقات مضبوطة على ساعات حائط معطّلة. العُطل والفرار من الواقع الى الحلم، ومن الحياة اليومية إلى شواطئ الفانتازيا الرحبة والآمنة. وإن كان التجريد هو موسيقى وفق تعبير كاندنسكي، فإن سلالم النوتات الموسيقية وجدها الباشا زخرفاً غرافيكياً من أوتار تقف عليها العصافير ثم تطير وتتفرق على وعود وقبلات وشموس صيف وقلوب متناثرة في فضاء حلميّ وغرائبية، حيث لا جدوى فيها للبحث عن المنطق، لأنها من فوران القريحة ومقدرة الارتجال.

* أكاديمية وناقدة فنية