باتت الرهجة المصاحِبة للجوائز الثقافية العربية تخضع لعملية ترويج أقرب ما تكون إلى منتج تجاريّ. زيادة على ذلك، يمكن القول بأن الترويج بحدّ ذاته صنعة، لا تتعلّق بجودة المنتج ولا بحاجة المستهلك له؛ إنّما تخضع لقواعد الاقتصاد الحرّ، وبذلك يكون المال مهمّاً لإبراز التمايز «الوهمي» في خضم عملية عرض وطلب تفرضها الأقطاب المسيطرة على السوق لأهداف في نفس يعقوبها. والثقافة بحد ذاتها سلعة لا يمكن استثناؤها من ذلك كلّه. ما الذي تبحث عنه الجوائز الثقافية العربية الشهيرة، خصوصاً تلك التي ترعاها دول خليجية؟ بالأحرى ما الذي تريد تكريسه؟ كسر التابوهات، أم الإضاءة على مناطق مظلمة، أو الارتقاء بالذائقة أو محاربة التطرّف والإرهاب؟ وإذا كانت السياسة قد كشفت عن تورّط هذه الدول في حروب، عدا تمويلها بشكل مباشر أو غير مباشر لجماعات إرهابية؛ فما هو المتوقّع من مخرجات الثقافة لهذه السياسات؟ وبينما غبار قوافل التطبيع الخليجية مع إسرائيل يتصاعد، كيف نأمن من تسلل فكرة الانفتاح على الصهيوني، بعيداً عن تمييع المسألة والمواربة تحت ذرائع العلوم والرياضة والأدب وحقوق الإنسان؟ لا يمكن اعتبار هذه المقدّمة هجوماً مجحفاً على هذه الجوائز وترشيحاتها، لكن الأسئلة السابقة هي أسئلة موضوعية، تحتاج لإجابات ليس بهدف المجادلة، بل لتبيّن الغث من السمين. وإذا كان الحديث في هذه المادة عن جائزة «بوكر» العربية؛ فهو يعود لنشر ترشيحاتها لعام 2019، حيث تم قبول 16 رواية، توزعت على لبنان والجزائر والأردن والسعودية والمغرب وسوريا ومصر والعراق وأخيراً إريتريا التي ما أن يقع نظرك على اسمها في القائمة الطويلة للترشيحات، حتى يثيرك الفضول أكثر بسبب اسم الرواية «رغوة سوداء» لحجي جابر الذي سبق له العمل كصحافي في مؤسسات إعلامية منها «الجزيرة» القطرية.
أخطر ما في رواية حجي جابر أنها تحيّد فكرة إسرائيل ككيان محتل وتتعامل معها كأنها دولة عنصرية تنتهك حقوق الإنسان

صدرت «رغوة سوداء» عن «دار التنوير» عام 2018، وهي رواية صغيرة نسبيّاً تتحدث عن شاب إرتيري مجهول النسب من «ثمار النضال»، ولد على جبهة القتال في حرب التحرير الإرتيرية الأثيوبية التي انتهت في بداية التسعينات. يستشفّ القارئ أن «أدال» يمرّ بأزمة هوية لم يتم طرح معالمها بشكل واضح. منذ الصفحات الأولى، يتلقّى القارئ مأزق هذه الشخصية التي تحاول البحث عن النجاة كفكرة وحيدة مسيطرة على العمل مهما كلّف ذلك من كذب وتدليس واختلاق قصص وسيناريوهات. لذلك، يهرب أدال من معسكرات التدريب في الجيش الأرتيري ليصير داوود المسلم، ومن ثم ديفيد المسيحي، وفي النهاية داويت اليهودي. كلّ ذلك بهدف الحصول على توطين في بلد أوروبي. وحين يخفق في تحقيق ذلك، يقرّر الذهاب إلى «إسرائيل» باعتباره أحد أفراد «بيتا إسرائيل» أو ما نطلق عليهم اصطلاحاً «يهود الفلاشا» من دون أن ندرك الفرق بين الاثنين والذي يتبيّن أيضاً أن بطل الرواية نفسه لا يفرّق بينهما.
من الناحية الفنية، يسيطر صوت واحد على العمل هو الراوي العليم. يتداخل على طول الرواية مع صوت الشخصية الرئيسية بلا حرفية فنية، لا سيما مع اللغة الهشّة التي استخدمها جابر وهي أقرب إلى لغة تقريرية أكثر منها أدبيّة، خاصة في الفقرات التي يصف فيها معالم فلسطين المحتلّة بأسمائها العبرية كأنّه يتتبع خريطة أو إرشادات تطبيق إلكتروني. زمن الرواية متداخل، وهناك قفزات بين الفصول ما بين الماضي والحاضر، تجنّب الكاتب بنجاح الوقوع في أيّ إرباك للقارئ. أمّا الحوارات، فكانت قليلة نسبياً تظهر ساذجة في بعض الأحيان، خصوصاً تلك الغرامية والجنسية. من جانب آخر، يسترسل جابر في بعض الحوارات التي تكون على شكل قصة أو بالأحرى كذبة على لسان بطله. هذه الإطالة فاقدة للمنطقية كما في حوار «دافيد» مع موظّف الأمم المتحدة. أكثر سلبيات الرواية تظهر في بناء الشخصية الذي لم يكن واضحاً بما يكفي، خصوصاً مع تقديم هذه الشخصية كفرد يريد «النجاة» اعتماداً على كونه مجهول النسب فقط. كأنّ في ذلك تبريراً مقنعاً للرحلة الطويلة المقطوعة بأكاذيبها من إريتريا إلى «إسرائيل». لذلك سنجد في أكثر من فقرة انتقالاً غير مبرّر لموقف هذه الشخصية من مربع الثقة والزهو، لتتحول شخصيةً مهزوزةً خائفةً. إذ يعتمد المتلقّي على السرد المقدّم بشكل كليّ من دون أن يترك له المجال في تخيّل الأحداث والوقائع وحتى تفهمها بما يكفي للاندماج مع ثيمة العمل.
تكمن حبكة الرواية في المفارقة الملازمة لقصة الكثير من الأفارقة الباحثين عن موطئ قدم خارج قارتهم بعيداً عن الحرب والمجاعة. واختيار إسرائيل لوجهة هذا الأفريقي التائه جاء من خلال التقاطة حجي جابر كما يبين الفصل الأخير من روايته المتعلقة بمقتل شاب إريتري في بئر السبع جنوب فلسطين المحتلة، بعدما أطلقت عليه الشرطة الإسرائيلية النار أثناء ملاحقة الشهيد محمد العقبي (21 عاماً) منفّذ عملية فدائية. يدعو هذا الفصل للوقوف والتمحيص والبحث عمّا يريده الكاتب من هذه الرواية التي تبرز «عقدة الاضطهاد» المبنية على العرق واللون، وتساوي ما بين الفلسطيني العربي والإسرائيلي الأبيض، وأخطر ما فيها أنها تحيّد فكرة إسرائيل ككيان محتل وتتعامل معها كأنها دولة عنصرية تنتهك حقوق الإنسان، عدا اعتبار قضية الأفارقة في فلسطين المحتلة أكانوا يهوداً حقيقيين أو مدّعي اليهودية أو متسللين ولاجئين منفصلة عن الصراع العربي والإسرائيلي.
ربما يعتقد حجي جابر أنه هزّ التابوهات الثلاثة في روايته الركيكة والخطيرة، والتي ــ لسبب ما ــ قُبلت لجائزة ثقافية مهمّة ترعاها دولة خليجية تتجه نحو إعلان علاقاتها مع إسرائيل، بل استقبلت تحت ذريعة الرياضة والثقافة وفوداً إسرائيلية. لو أخذنا الجنس كتابوه أول لهذه المحظورات، لم يأتِ الكاتب بجديد وهو يسرد خيالات مراهق عبّر عنها من خلال المبالغة والكذب، لاستعطاف الرجل الأبيض الذي يملك السلطة لحلّ مشكلته كإفريقي يبحث عمن يقتنع بروايته، فيمنحه الموافقة على معاملة الهجرة. من هناك بدا داوود أو ديفيد معترفاً بدونيته ويسعى من خلال الكذب لإقناع موظف الأمم المتحدة بمظلوميته «المفترَضة» حيث تبقى القصة الحقيقية لهذه الشخصية مستترة وراء أجزاء من الحقيقة وأكاذيب وتخيلات، كأنّها غير مهمّة. وبذلك يقلّل جابر من أهمية معاناة بطله ومن يشبهه. وبدل أن يطرح المشكلة ويعالجها بطريقة درامية فنيّة، اتّجه نحو الكتابة التقريرية عن المخرج الملتوي لمشاكل أولئك المهاجرين. بكلمات أخرى، اختلق حجي جابر رواية ضعيفة لمقتل الشاب الإريتيري في بئر السبع.
عدا الادّعاء في الحديث عن الجنس، أقحم جابر شخصية ثانوية كانت مدخله لتأزيم الحبكة وإخراج داويت من المستوطنة التي كان يقطنها بعد افتضاح أمره أو هكذا بدا له، حيث تعرّف إلى فتاة تُجري بحثاً عن «تأثير معاناة اللاجئين في مجتمعات لا تتقبلهم بسهولة، على حياتهم الجنسية». رافق داويت هذه الباحثة إلى اعتصام لأفارقة متسللين يطالبون الحكومة الإسرائيلية بمنحهم حق اللجوء، مما تسبّب في إثارة الشكوك حوله. هذا الفصل بالإضافة إلى خيالات الشخصية الرئيسية، يكرّسان الصورة النمطية عن الكبت المرافق للفقراء واللاجئين وهي من الملفات المرغوبة لدى المنظمات الحقوقية التي تسعى في الغالب للتشخيص لا حلّ المشاكل.
الرواية تبرز «عقدة الاضطهاد» المبنيّة على العرق واللون، وتساوي ما بين الفلسطيني العربي والإسرائيلي الأبيض


الدين كتابوه ثانٍ في الرواية، تناوله الكاتب بشكل مسطح، حيث لا روحية لدى بطل الرواية تجاه أي دين، وذلك مقصود ومبرّر لغايات فنية. يلتقي داويت بالدين بشكل حقيقي بداية في معسكر غوندار في إثيوبيا قبل السفر المرجو إلى «إسرائيل»، ويختلف موضوع الدين اليهودي في هذا المعسكر عن الدينين الإسلامي والمسيحي اللذين كانا مختصرين قبلاً بتغيير اسمه. لكنه هناك في غوندار خضع للتعميد والتأكد من ختانه بوجود حاخامات غير مقتنعين بيهوديته، لكنهم اعتبروه عائداً إلى ملّتهم. اللقاء الثاني مع الدين كان مع زيارة داويت للبلدة القديمة في القدس وحميمية اللقاء مع كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، والبرود تجاه حائط البراق وورقة أمانيه الفارغة فيه، إضافة إلى غيظه من قبة الصخرة التي وصفها جابر –على لسان شخصيته- بالمتعجرفة والمزهوة ببريقها ولديها غرور مكشوف. واعتبر أنها تعتاش على جمالها وعلوّها. لكن على طول الرواية، لم يكن هناك حاجة حقيقية للبطل، أياً كان اسمه، لمناجاة رب من خلال أي عقيدة؛ فهو يبحث عن نجاة دنيوية وأي خطاب موجه للرب هو خطاب مفتعل كي لا يثير الشكوك من حوله.
التابوه الثالث الذي يأتي تحت عنوان السياسة، يمكن تلخيصه بغياب فلسطين وحضور «إسرائيل»؛ فالكاتب غير معنيّ أبداً بهذا «التفصيل» الذي سيشوّش على مشروعية روايته ويفقدها مناصرين كثراً جرّاء صدام لا يعنيه ولا يريد الخوض فيه. عوضاً عن ذلك ركّز على التمييز العنصري ضد السود الأفارقة سواءً مارسه الإسرائيلي بعجرفته أو الفلسطيني المضطهَد الذي يطلق عليه «عربي» ليس بطريقة إيجابية بل من وجهة نظر تمييزية أخرى كالتي يستخدمها الإسرائيليون، مسقطاً من اعتباراته أن هناك عرباً وفلسطينيين «سوداً»، بل يميل لون الفلسطينيين للسمرة التي يمكن تمييزها عن البياض الأوروبي النقي. أما بحديثه عن الآخر أي الفلسطيني المغيّب بل اللا مرئي في هذه الرواية، فقد كان عبر إشارتين جاءتا مقحمتين: الأولى في عبارة منحوتة على خشب في «كندا بارك» تقول: ليست كندا بارك... هي عمواس وبيت نوبا ويالو. هذه العبارة لم تثر في نفس داويت ولا حتى تساؤلاً عن معناها أو مغزاها. العبارة الأخرى هي «القدس عربية» مكتوبة على لوحة رخامية عليها أثر رصاص تشير إلى طريق نابلس بالعربية والعبرية والإنكليزية، أيضاً بلا أيّ تعليق من بطل الرواية. أما فلسطين كقضية وبلد، فقد جاء الحديث عنها من أفريقي آخر مسلم يعادي الإسرائيليين لكنه يصف مشاكل الأفارقة الفلسطينيين على حدّ تعبير جابر بأنّها إمّا معاداة الإسرائيليين لهم بسبب معاداتهم للاحتلال، أو عدم تقبّل بعض الفلسطينيين للون البشرة السمراء الذي ليس بغريب عن الثقافة العربية. وهنا يأتي توكيد على المصطلح الذي اختاره جابر كعنوان للرواية «رغوة سوداء» تطفو على السطح رغم كل محاولاتها أن تصبح في قلب المكان.
هناك احتفاء كبير بالرواية، التي وجّه كاتبها شكره لوزير الثقافة الفلسطينية إيهاب بسيسو الذي أتاح لجابر زيارة الضفة الغربية ومنها قصد القدس بتصريح أمني من دون أن تثار حوله أي شبهة تطبيعية وكأن الدخول لفلسطين بات أمراً اعتيادياً، في قفزة عن جوهر التصريح من جهات فلسطينية لعبور الجسر بإذن إسرائيلي مسبق ولبعض الأفراد وليس للجميع في قضايا محددة تخدم الصورة الديمقراطية المزيفة لإسرائيل. وكالعادة، تشترك في التسهيلات لأولئك القادمين لزيارة فلسطين بإذن إسرائيلي، نخبة ثقافية تعمل كمضيف وكمرشد سياحي، مما يعطي المجال لاتساع رقعة السفر بلا صدام مع الاحتلال.
ليس المهم أن تفوز هذه الرواية بالجائزة، فمجرد ترشيحها ضمن نخبة من الأعمال هي مدخل لمستوى جديد من تمييع النضال العادل والمشروع ضد محتلي الأرض الفلسطينية. وهي شكل جديد من أشكال التطبيع باعتبار إسرائيل دولة شرعية بممارسات لا شرعية، أي بتجاوز حقيقة تأسيسها كدولة لا تمارس الأبرتهايد فقط، بل تمارس التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، والبدء بالعلاقة معها من زاوية حقوق أقليات ونضال يحتاج لدعم دولي لتجاوزه. الحديث عن الأقليات وحقوق «السود» والمهاجرين طريق وعر لا يخلو من أفخاخ كثيرة كالتي تنصبها هذه الرواية. ويبدو أي انتقاد لها، سيعتبر تمييزاً ضد الأفارقة واللاجئين وسيساوي من سينتقدها بإسرائيل التي تمارس عليهم اضطهاداً لا إنساني.