على مدى سنوات طويلة، ظلّت الشخصيات المثلية تقدَّم سينمائياً وتلفزيونياً ضمن قوالب سطحية وصور نمطية (مخنّثون، مرضى نفسيون، مصابون بالإيدز، أشرار...) تختلف مع تبدّل العصور والعوامل المؤثّرة على البيئة السينمائية في كلّ حقبة. لكن من المؤكد أنّ فترة التسعينيات من القرن الماضي شكّلت نقطة تحوّل بالنسبة لاتساع هامش ظهور الشخصيات المثلية على الشاشتَيْن الصغيرة والكبيرة، والتعبير عنها بصراحة أكبر. مع الوقت، تبدّل الواقع من الغموض والتلميحات إلى الكشف الصريح عن الهويات الجنسية على اختلافها، خصوصاً على التلفزيون. وفي غضون بضعة عقود، شهدنا تحوّلاً ملحوظاً في تصوير شخصيات «مجتمع الميم» (LGBTQ+ ــ المثليين والمثليات والمتحوّلين والمتحوّلات ومزدوجي الجنس والكوير) في السينما والدراما التلفزيونية على حدّ سواء، لا سيّما مع فورة الـ «ستريمينغ». في عام 1991، كان LA Law من أوائل المسلسلات التي تُظهر قبلة حميمة جداً بين شخصيتَيْن مثلّيتَيْن على المحطات الأميركية في وقت الذروة. حدث ذلك بين البطلتَيْن «سي جاي لامب» و«آبي بيركينز»، قبل أن تصبح تلك الواقعة «لحظة تلفزيونية تاريخية» بالنسبة للمشاهدين الـ «كوير» (مصطلح سياسي يُستخدم للدلالة على المنتمين إلى «مجتمع الميم» من دون تصنفيهم/ ن). ثم شكّل سيتكوم «فريندز» (بدءاً من 1994) محطة أساسية في مجال رفع وصمة العار عن المثليين؛ لا سيّما مع معاناة «روس غيلر» (ديفيد شويمر) من صدمة قوية ستغيّر مجرى حياته بعد طلب زوجته الطلاق منه إثر إخباره بأنّها مثلية وتعيش قصة حب، قبل أن يتّفق الثنائي على أنّ تربية طفلهما الوحيد ستكون مشتركة بين الأم وحبيبتها الجديدة (تتزوّجها لاحقاً) من جهة و«روس» من جهة ثانية. ترافق ذلك مع زيادة الحملات المطالبة بحقوق المثليين في الولايات المتحدة، فيما أخذ بعض المشاهير يعلنون عن هوياتهم الجنسية كما فعلت مقدّمة البرامج والممثلة الكوميدية إيلين ديجينيريس في 1997 على غلاف مجلة «تايم». صحيح أنّ «باب جهنّم» فُتح أمام إيلين يومها، إلا أنّ هذه الخطوة شجّعت كثيرين وأخذ الواقع يتطوّر لاحقاً نحو الأفضل. وفي السنة التالية، كان مشاهدو التلفزيون على موعد مع مسلسل «ويل آند غريس» الكوميدي الذي يتطرّق إلى رجلَيْن مثليَيْن، وأمسى أحد أكثر الأعمال الدارمية مشاهدة في البلاد لسنوات.
واقع جديد لا شكّ أنه أنبأ بتفاؤل وتغيير جذري قادم، في وقت كان فيه تمثيل «مجتمع الميم» شبه معدوم في وسائل الإعلام. إلا أنّه تبيّن في ما بعد أنّه حتى لحظات «الكوير» ليست أكثر من مجرّد لعبة دعائية تسهم في استقطاب هذه الفئة، وتندرج في سياق الـ «ترندات» والحيل التسويقية المعتمدة في المطابخ الإعلامية.
السنوات اللاحقة ستشهد صعود أيقونة «كوير» متمثّلة بالأميرة المحاربة «زينا» التي جسّدتها النيوزيلندية لوسي لوليس، وجمعتها علاقة برفيقتها «غابرييل» (ريني أوكونور). في ذلك الوقت، كان المنتمون إلى «مجتمع الميم» عطشى لقصص تلفزيونية تقارب حيواتهم ولو كانت سطحية تنضح بالصور النمطية، بينما تمرّس صنّاع الميديا في تشكيلها! أما اليوم، فقد ارتفعت توقّعات المشاهدين تجاه وسائل الإعلام والمنصات التي تدّعي تمثيلهم واحترامهم والتعبير عنهم، في مقابل زيادة حدّة الجدل حول طريقة تصوير الشخصيات «الكوير»، والمواضيع التي يتم تناولها، والأسماء التي تجسّدها (راجع الكادر).
إلى جانب أفلام على شاكلة «ذا فايفوريت» (إخراج يورغوس لانثيموس) و«مونلايت» (إخراج باري جينكينز) و «مع حبي، سيمون» (إخراج غريغ بيرلانتي) وCall Me by Your Name (إخراج لوكا غواداغنينو) وغيرها، تطول لائحة المسلسلات التي تتناول أو تصوّر شخصيات «مجتمع الميم». من Grey’s Anatomy (شبكة ABC)، وSense 8 و«البرتقالي هو الأسود الجديد» (نتفليكس)، إلى High Maintenance («فيميو» وHBO)، وOrphan Black (شبكات عدّة من بينها «بي. بي. سي أميركا»)، و Modern Family (شبكة ABC وUSA)، و Unbreakable Kimmy Schmidt و«إيليت» (نتفليكس)، وQueer Eye (حمل الموسم الأوّل في 2003 اسم Queer Eye for the Straight Guy عبر شبكة «برافو». أطلقت «نتفليكس» موسماً جديداً في شباط/ فبراير الماضي). كما أنّ مسلسل Sex Education (توعية جنسية) الجديد على «نتفليكس» يحظى أيضاً بإعجاب كثيرين بسبب طريقته «الواقعية» في تناول الـ LGBTQ+.
زيادة أعداد شخصيات «الكوير» على الشاشة مقارنة بأي وقت مضى


ما ذكرناه لا يعدو كونه عيّنة بسيطة من الكمّ الهائل من الإنتاجات المعروضة على التلفزيونات أو المتوافرة على منصات المشاهدة عبر الإنترنت. لكن في مقابل هذه «الطفرة»، رصد تقرير Where We Are on TV (أين نحن على التلفزيون) الصادر العام الماضي عن منظمة GLAAD (تحالف المثليين والمثليات ضد التشهير) الأميركية زيادة في أعداد شخصيات «الكوير» على الشاشة مقارنة بأي وقت مضى، بما في ذلك تلك المتحوّلة جنسياً، ناهيك عن أنّ كاركتيرات الـ LGBTQ+ الملوّنة بزّت أصحاب البشرة البيضاء لجهة العدد.
لكن على الرغم من هذه النتائج غير المسبوقة، الصورة ليست مشرقة بالكامل. فبحسب المؤشّر الصادر عن المنظمة غير الربحية نفسها المعنية بمراقبة صورة «مجتمع الميم» في الميديا، الإكثار من وجود هذه الشخصيات ليس كافياً، بل على الإنتاجات الدرامية والبرامج أن تصوّر تجاربهم المعاشة على حقيقتها: «يتعيّن على القائمين على هذا النوع من المشاريع التطرّق إلى حكايات تعكس الواقع الراهن بوحدته وتنوّعه». في هذا السياق، لفتت صحيفة «إندبندنت» البريطانية أخيراً إلى أنّه في الوقت الذي تصارع فيه المؤسسات الإعلامية لإشراك الجمهور الشاب القادر على الوصول إلى كل ما يريد بكبسة زرّ عبر الشبكة العنكبوتية، يبدو جلياً أنّ الحلّ بالنسبة إليها ولمنصات الـ «ستريمينغ» الحريصة على استقطاب المزيد من المشتركين، يكمن في «تمكين كتّاب وممثلين وصنّاع محتوى من «مجتمع الميم» للتعبير عن المواقف والمشاعر والصعوبات كما هي، من دون مواربة ولا تزييف»، تمهيداً للتعامل (درامياً) مع هؤلاء الأشخاص كجزء أساسي وطبيعي من المجتمع، بعيداً عن اللعبة الاستهلاكية وبأسلوب أمين للحقيقة.



مَن يحق له التمثيل؟
نقاش حاد وواسع النطاق تشهده أوساط صناعة الأفلام والمسلسلات على خلفية تجسيد الشخصيات المنتمية إلى «مجتمع الميم». في تموز (يوليو) 2018، رضخت الممثلة الأميركية سكارليت جوهانسون للأصوات المعترضة على تأديتها دور رجل متحوّل جنسياً يُدعى «دانتي تكس جيل» (وُلد أنثى تحت اسم «لويس جين جيل»)، في فيلم Rub & Tug للمخرج روبرت ساندرز. تلك الشخصية الحقيقة التي أدارت صالونات تدليك محمية من قبل المافيا في مدينة بيتسبرغ الأميركية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي كانت بمثابة واجهات لممارسة الدعارة. سبب الاعتراض كان أنّ الفنانة البالغة 34 عاماً لا تنتمي في الحقيقة إلى «مجتمع الميم» وأنّ هناك أسماء أحق في هذه الفرصة. قبل ذلك، واجهت الأسترالية كيت بلانشيت موقفاً مشابهاً لدى لعبها دور البطولة في فيلم «كارول» (إخراج تود هاينز) في 2015، وكذلك الأمر بالنسبة للبريطاني إيدي ريدماين في ما يخص قيامه بدور «ليلي ألبي» (1882 ــ1931) المتحوّلة الجنسية الشهيرة التي عُرفت سابقاً بشخص الرسام إينار ويغنر في فيلم «الفتاة الدنماركية» (إخراج طوم هوبر). هنا، تنقسم الآراء بين مَنْ يرى ضرورة في أن توكل هذه الشخصيات إلى أشخاص من مجتمع الـ LGBTQ+ كونهم يستطيعون التعبير عنها بأفضل طريقة، وبين من يعتبر أنّ جوهر مهنة التمثيل يتعلّق أساساً بالقدرة على تجسيد أدوار بعيدة عن شخصية الممثل وتشكّل تحدياً بالنسبة له.