أكثر ما يؤلم في عرض فرقة زقاق الجديد «جنّة، جنّة، جنّة» إدراكك أنّ الحديث عن تاريخ الحرب الأهلية، ما زال راهناً أكثر من أي وقت مضى. ينطلق العرض من الفينيقيين حتى الحرب الأهلية اللبنانية والحاضر، لكن على الخشبة، فالسرد التاريخي يجري في اللامكان واللازمان، حيث تختلط التواريخ فوق فضاء خشبة لا تنتمي لا إلى هنا ولا إلى هناك.
على خشبة صغيرة، تقف ثلاث نساء (مايا زبيب، دانيا حمود، لميا أبي عازار) ضمن إطار ستارة مخملية زرقاء (سينوغرافيا ابراهم زيتون، وأزياء ريّا مرقص)، ويسردن قصة وطن وصف بالـ «جنّة، جنّة، جنّة». كورس نسائي تراجيدي، كما في التراجيدية الإغريقية، يسرد الوقائع ويمثل صوت ضمير الأحياء والأموات: نحن أو بالأحرى ملائكة التاريخ كما يصفهن والتر بنيامين.
بعد العروض الأخيرة للفرقة مثل «خيط حرير»، و«أليسانة، تدريب على الطاعة»، بدأنا نشهد اعتماد لغة بسيطة وقوالب إخراجية وفنيّة تستمد مفرداتها من الثقافة الشعبيّة كي تقدم مادة عرض تراجيدية ومعقّدة بسلاسة بالغة. في «جنّة، جنّة، جنّة» الذي أخرجه عمر أبي عازار وجنيد سري الدين، تطوّر الطرح ليطاول لغة الفولكلور، فحولته الفرقة إلى فولكلور تراجيدي. يمكننا القول من دون مبالغة بأنّنا نشهد انطلاق مرحلة جديدة وواعدة من المسرح اللبناني، تذكّرنا بتجارب عرفناها مع أمثال شوشو ومسرح الحكواتي وزياد الرحباني التي نجحت في مخاطبة جمهور أوسع من جمهور المثقفين.
بعد عرض «هاملت ماكينة» بنسختيه، قدّمت «زقاق» أعمالاً تتوق إلى التفاعل مع جمهور من مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية من دون التخلي عن القيمة الفنيّة. ها هي تحقق ذلك اليوم في «جنّة، جنّة، جنّة». عناصر عديدة انصهرت في بعضها مؤمّنةَ ذلك النجاح. ولا بدّ من التوقف عند إبداع هاشم عدنان في كتابة النصوص الجماعية في العرض. لغة بسيطة مقفاة أشبه بالزجل الشعبي، والمغنّى، تسرد قصة التاريخ كما هو بحقائقه وأسمائه من دون مواربة أو مداراة لـ «الحساسيات» الطائفية.
منذ المشهد الأول ومع ترداد لازمة «في يا ما في، بهالزمان المكتفي»، يتناوب الكورس النسائي على سرد التاريخ الكارثي لهذا الوطن. ما فعله عدنان بجدارة مع الفرقة، هو تحويل المفردات الفولكلورية المعتمدة عادة في التغنيّ بالجمال والسعادة إلى سرد الكارثة والتراجيديا. إنه فولكلور تراجيدي بامتياز. قوة تلك اللغة تكمن في سهولة اختراقها جسد الجمهور سمعاً وإحساساً، إذ إننا تشربنا تلك اللغة الفولكلورية منذ الصغر. لذلك فهي تخاطبنا بلا حواجز. اعتماد تلك اللغة في العرض يضمن استعداد المتلقي لها وانفتاحه عليها، لكن هذه المرة جاءت لتسرد الكارثة. حروب وقتل ودم وتفجير وخطف، تاريخ وقح يسرده العرض بفجاجة ضمن قالب نص فولكلوري تراجيدي مقفى ومغنّى. يتقلّب النص بين التاريخ العام للوطن، والتاريخ الخاص للمؤديات. يمتزج تاريخ ميلاد الوطن بتواريخ ميلاد الممثلات، وخطف أقربائهن وموت آخرين وتاريخ حرب شهدت خطف واختفاء وقتل الآلاف من دون معرفة ذويهم مصيرهم حتى اليوم. ذلك المزج بين العام والخاص يعيد تذكيرنا بأننا جميعاً ـ مهما اختلفت طوائفنا وتوجهاتنا ـ نتشابه في مصيرنا أمام الكارثة. أما تأريخ العرض في اللازمان، حيث تختلط السنوات والتواريخ، فيؤكد على الدوامة التاريخية المغلقة التي نعيشها وتتكرر فيها الأحداث والمصائب. مع ذلك، لا يخلو النص من لحظات ترسم ابتسامة أو ضحكة عالية، لكن الأجدى وصفها بالمأساوية بدلاً من الكوميدية. إخراجياً، جرى تظهير الجانبين التراجيدي والفولكلوري في خيارات بسيطة تمثّلت في الحركة وتموقع الكورس في وضعيات مختلفة تؤلّف تنويعات على لوحات الكورس الإغريقي أو ملاك التاريخ في لوحة بول كلي. هكذا حملت النساء الثلاث النص بأجسادهن الشاهدة على التاريخ، وقدمنه في أداء متقن وبسيط وبليغ من دون مبالغة، بل إنّهن سردن الفظائع ببرودة قاسية، وانفصلن أحياناً عن الكورس، لتسرد كل واحدة تاريخها الشخصي مع ابتسامة صغيرة ومؤلمة.
«جنّة، جنّة، جنّة» يستكمل البحث الذي بدأته «زقاق» مع عرض «مشرح وطني» (الأخبار 19/12/2012) حول التاريخ. يأتي هذا العمل كجزء من مشروع يجمع الفرقة مع جمعية War Child Holland منذ 2013 و«مركز الديمقراطية المستدامة» (SDC) ونوادي المواطنة والسلام، وبتمويل من Liberty Foundation. يقدم العرض في «استديو زقاق» (العدلية) لأربع ليالٍ، لكنه سيجول على مختلف المناطق اللبنانية حاملاً معه تراجيديا تاريخ ذلك الوطن وأسئلته الموجعة. تراجيديا إن قبلنا يوماً أن ننساها ونعفو عنها كما يُطلب منّا كل يوم، فإننا بذلك نكتب بأيدينا الحياة للمجرمين والموت لنا.

«جنة، جنة، جنة»: بدءاً من 6 حتى 9 شباط (فبراير) ــ «استديو زقاق» (العدلية، بيروت) الدخول مجاني ـ للاستعلام: 76/863415



زمن الانتحاريين

يقول كاتب نصّ «جنة، جنة، جنة» هاشم عدنان لـ «الأخبار» إنّه كان يستحيل ضمن ما نعيشه اليوم في لبنان والمنطقة أن يجد فعلاً درامياً واحداً يمكن تجسيده في النص. لذلك اقتصر العرض على فعل السرد. لكن العمل قائم على فعلين في الحقيقة: فعل الشهادة للتاريخ نصاً وفعلاً في زمن التجاهل والنسيان، وفعل العمل المسرحي المستمر لفرقة «زقاق» في زمن حوّل فيه الانتحاريون والتكفيريون الفعل إلى فكرة عبثية.