القاهرة | المشهد عبثي بامتياز. وزارة الثقافة تنهي العام باحتفالية كبرى في مئوية الرئيس الأسبق أنور السادات. لم تكن الاحتفالية من ذلك النوع العابر، الذى تفرضه المناسبة. كانت تأكيداً على أن النظام هنا أقرب في الأفكار إلى نظام السادات ثقافياً وخارجياً وإعلامياً، رغم أنه لا يترك مناسبة إلا بالتأكيد على أنه امتداد لنظام يوليو/ عبد الناصر.رغم عبثية المشهد، إلا أن دلالته كبيرة. ميلودراما السبعينيات الثقافية، تتكرر في مهزلة أخرى. تفاصيل المشهد الثقافي المصري في لحظته الحاضرة تتطابق مع ما جرى في سبعينيات السادات، حيث شهدت تلك الفترة التغريبة الكبرى للمثقفين المصريين في المنافي المختلفة، سواء من هاجر منهم بجسده منفياً، أو هاجر بإبداعه للنشر خارج مصر (كانت بيروت وبغداد ودمشق قبلة المثقفين المصريين لنشر أعمالهم الإبداعية طوال تلك الأيام). وكانت الصحافة في حصار خانق، الآن يتكرر المشهد أيضاً، وإن كانت وسائل الاتصال الحديثة قد لغت فكرة «المنفى» ذاتها، يبقى عبئها النفسي ومرارتها. في تلك الفترة أيضاً، تمت سيطرة اليمين على منابر العمل الثقافي ونوافذه المختلفة، فظلت مصر بلا مجلة ثقافية واحدة يمكن أن تعبر عما يعتمل في الواقع المصري من أفكار جديدة واتجاهات أدبية.
في 2018، تبدو مصر بلا مجلة ثقافية رسمية واحدة، تماماً كما جرى في السبعينيات، وكانت البدائل وقتها مجلات الماستر. الآن، تبدو مواقع التواصل الاجتماعي أو بعض المحاولات الفردية (مجلة «مرايا») بديلاً لمجلات الدولة المهترئة.
عشرات دور النشر المصرية تعرضت لهجوم أمني بحثاً عن كتب ممنوعة، كان أبرزها مصادرة كتاب «الملاك: حكاية الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل» الذي يسرد فيه مؤلفه يوري بارجوزيف، الرواية الإسرائيلية التي تقول إن أشرف مروان كان جاسوساً رفيع المستوى لإسرائيل، وأنّه قدم لها معلومات ووثائق مهمة خلال الفترة التي عمل فيها لمصلحتها. كما تمت مصادرة ديوان «خير نسوان الأرض» لجلال البحيري الذي تم الحكم على صاحبه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة الإساءة الى المؤسسة العسكرية. هذه هي المصادرات المعلنة، لكن ما لم يعلن عنه أو توقف نشره في اللحظات الأخيرة كان كثيراً أيضاً. وانتهى الأمر بعدم منح أرقام إيداع الكتب الجديدة، إلا بعد إرسال نص الكتاب مسبقاً، وتعهد من الكاتب بأن ما يتضمنه الكتاب من أفكار يتحمل مسؤوليته، كأن الكتاب الذي يحمل غلافه اسم الكاتب ليس كافياً أو دليلاً. كما توقفت بعض الدور عن الإنتاج الثقافي لأسباب مالية بعد الزيادات الرهيبة في أسعار الورق والأحبار، فنجد أن داراً طليعية مثل «ميريت» لم تصدر إلا عدداً محدوداً من الأعمال لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، كما قلصت الكثير من الدور الأخرى إنتاجها.
وفي محاولة لمزيد من الهيمنة السلطوية، أصدر مجلس الوزراء قراراً بتنظيم المهرجانات والاحتفاليات الثقافية. وبمقتضى هذا القرار، «لا يجوز إقامة مهرجان أو فعالية ثقافية إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة، التي تقوم بتشكيل اللجنة العليا الدائمة لتنظيم إقامة المهرجانات والفعاليات الثقافية»، ويعطي القرار الحق للجنة باقتحام الحفلة أثناء فعالياتها، ومراجعة كل برامجها. وهو ما يعني مزيداً من التضييق على الفرق المستقلة أو على الأنشطة الثقافية المستقلة مثل حفلات توقيع الكتب. إذ اشترطت هيئة الكتاب المصرية على دور النشر الراغبة في إقامة حفلات توقيع لكتابها في فعاليات معرض الكتاب القادم (يبدأ في 24 كانون الثاني/ يناير حتى 5 شباط/ فبراير) بإبلاغ الهيئة بعناوين الكتب قبل موعد انعقاد المعرض بثلاثة أشهر، وعدم إقامة الحفلات داخل أجنحة دور النشر وإنما في مكان مخصص لذلك وبأسعار مرتفعة نسبياً، وهو ما أصاب كثيرين بالإحباط، وخاصة أن القواعد الجديدة لمشاركة دور النشر في المعرض دفعت الكثير من الدور المصرية إلى الاعتذار عن عدم المشاركة ودفعت كذلك بائعي الكتب القديمة (سور الأزبكية) إلى الإعلان عن إقامة معرض كتاب موازٍ بأسعار منخفضة، وهو الأمر الذي يهدد معرض الكتاب الذي يحتفل بيوبيله الذهبي في تلك الدورة.
بعيداً عن محاولات الوصاية، يبقى بعض الأمل في كسر الحصار الثقافي. ففي الوقت الذي تستمرّ فيه وزارة الثقافة بالمماطلة في تخصيص متحف لنجيب محفوظ، أعلنت عنه منذ رحيله 2006، إلا أن هامش الثقافة نجح في تسليط الضوء على «عميد الرواية العربية» بعد 12 عاماً على رحيله، وفي مناسبة مرور 30 عاماً على حصوله على جائزة «نوبل». هكذا، أصدرت «دار الساقي» اللبنانية مجموعة قصصية جديدة له بعنوان «همس النجوم» تضمنت نصوصاً لم تنشر من قبل. كما أصدرت «دار العين» كتاب الزميل محمد شعير «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة»، وأصدرت «دار صفصافة» كتاب «30 عاماً فى صحبة نجيب محفوظ» للطبيب محمود الشنواني. وأقيم عدد من الندوات حول صاحب «نوبل»، بعيداً عن وصايات المؤسسات الرسمية. حتى إنّ بعضهم اعتبر هذا العام عام نجيب محفوظ بامتياز.
كما شهد العام صدور عدد كبير من الكتب والمجموعات القصصية والترجمات المميزة، عاد محمد المخزنجي بثلاثة كتب دفعة واحدة «صياد النسيم»، و«بيانو فاطمة»، و«السعادة في مكان آخر». كما أصدر عدد من الكتّاب الشباب أعمالاً قصصية؛ من بينهم حسن عبد الموجود (حروف فاتنة)، ومنصورة عز الدين (مأوى الغياب)، وطارق إمام (مدينة الحوائط اللانهائية)، ومحمد عبد النبي (كان يا ما كان). كما صدر عدد من الروايات المميزة؛ من بينها «طرق الرب» لشادي لويس، و«قبل أن أنسى أني كنت هنا» لإبراهيم عبد المجيد، و«الخروج من البلاعة» لنائل الطوخي، و«الوصايا» لعادل عصمت، «هنا بدن» لبسمة عبد العزيز، وأخيراً «حروب الرحماء» لإبراهيم عيسى.
شهد العام رحيل عدد بارز من أبرز المثقفين؛ من بينهم صبري موسى صاحب الرواية الشهيرة «فساد الأمكنة»، والناقد سيد البحراوي صاحب «الحداثة التابعة في الثقافة المصرية» الذي اعتبر فيه أن التبعية الذهنية للغرب هي أساس «أزمة الوطن» التي تهدد وجوده، وخاصة أن التبعية لم تعد حكراً على المثقفين بل تعدتها إلى «مجمل الطبقات الشعبية» عبر وسائل الإعلام. كما رحل الناقد وعالم الاقتصاد جلال أمين صاحب «ماذا حدث للمصريين؟»، والمفكر الاشتراكي البارز سمير أمين الذي دفن في باريس وأقام سنواته الأخيرة في داكار في السنغال مديراً لـ«معهد التخطيط والتنمية»، ورئيساً لـ«المنتدى العالمي للبدائل». كما رحل الكاتب والروائي أحمد خالد توفيق، أحد جسور الشباب المهمة لمحبة الكتابة والقراءة من خلال كتاباته الجاذبة في أدب الرعب والخيال العلمي، والفانتازيا، فضلاً عن الكتابة الساخرة. كما أسهم في كتابة الرواية الكلاسيكية. ومن أشهر رواياته «يوتوبيا» (2008) التي تتحدث عن قيام الأغنياء بتأسيس كومباوندات سكنية محصّنة بالأسلاك الشائكة وكلاب الحراسة، لا يدخلها الفقراء، وإذا اقتربوا يموتون. كما رحل الصحافي لويس جريس أحد مكتشفي الأصوات الأدبية الشابة في مصر في الستينيات. وفي نهاية العام، كان رحيل فنان الأوبرا والمثقف البارز حسن كامي. وقد فجرت وفاته صراعاً على مكتبته التراثية التي يمتلكها في وسط القاهرة، وانتهى الأمر بتأميم وزارة الثقافة للمكتبة بما تتضمنه من مقتنيات في اعتداء صريح على «الملكية الفردية» للأشخاص.