بعد مرور خمس سنوات على إصدارها الأول، وتقديم حفلات عدة سبقت وتلت هذه المحطة المفصلية في مسيرتها الفنية، تلتقي المغنية اللبنانية الشابة مايا حبيقة جمهور الأغنية الجادّة، غير التجارية، في أمسية وحيدة تقام عند الثامنة من مساء اليوم في متحف الصابون في مدينة صيدا. تقف حبيقة اليوم عند النقطة التي تقع بين «الغنيّ عن التعريف» و«المغمور». إذ أمّنت لها تجربتها الخاصة انتشاراً بين جمهور المسارح ومتذوّقي الموسيقى، لكنه لم يتعدّاه بشكلٍ ملفت، بسبب التمسّك بخطّ فنّي عام لا يهمّ الإعلام التقليدي أو الحديث (الشعبوي بغالبيته الساحقة) القادر على إيصال هذا المشروع إلى شريحة واسعة من الناس، لبنانياً وعربياً. هذا ليس تقييماً فنياً لنتاج مايا حبيقة بقدر ما هو توصيفٌ لملامحه. بمعنى آخر، التجارب الاستهلاكية تجمعها قواسم مشتركة عدّة، أبرزها القبح والسطحية، لكن التجارب الجادّة لا يمكن وصفها، جميعها، بما هو عكس ذلك، أي عكس القبح والسطحية. قد تكون غير تجارية وركيكة أو غير تجارية وممتازة، لكن القاسم المشترك بينها أن جميعها لا يحظى بفرصة تقييم شعبية عامة، وهذا ظالم لطَرَفي العمل الفني، أي مبدعه ومتلقّيه.أصدرت مايا حبيقة ألبومها الأول «ورد» عام 2013 بالتعاون مع شقيقها جاد الذي كتب ولحّن جميع الأغنيات في العمل وشارك في توزيعها موسيقياً (إلى جانب عازف البيانو ناريغ عباجيان). إنه ألبوم مشغول بهمّ فني راقٍ وشغف في الشعر الشعبي والموسيقى بمعناها الأصيل، غير المشوّه. هذه النيّة السليمة والسكة الصحيحة والمهنية في العمل لا تنتج بالضرورة أعمالاً لا تحتمل بعض الملاحظات السلبية (بعضها تنفيذي بسبب غياب الدعم من جانب منتجين لم تعد تعنيهم الأعمال المحترمة)، لكنها تؤسّس بالتأكيد لثقافة سمعية افتقدها العرب. لناحية الكلمة، تميل أغنيات حبيقة إلى اللغة «الطبيعية»، الحقيقية والعفوية، مع قليل من الصور الشعرية، الموفّقة غالباً. لكن ربّما يؤخذ على الألبوم تمحوره، عموماً حول موضوع واحد: الخيبة العاطفية (من جهة المرأة) المعبَّر عنها بالعتب أو بانتهاء العلاقة أو توقُّع انتهائها أو إنهائها أو رفض ترميمها. موسيقياً، تتمتّع الألحان بسلاسة وسهولة في المقاربة والتلقّي، لكن بعضها يفتقر إلى نضجٍ سيأتي في المستقبل مع الممارسة وتوسيع رقعة الاطّلاع على أنماط موسيقية مختلفة ومتباعدة. في السياق ذاته، لكن لناحية التوزيع (أو الإعداد أو الإنتاج بمعناه الغربي، أي وضع تصوّر موسيقي للأغنيات وتأمين تنفيذه) فجميع العناوين تنتمي إلى منظومة سليمة لناحية المقاربة الشكلية، أي الخط العام. ضمن هذا الخط العام، المشكلة لا تكمن بما هو «حاضر» في التوزيع، لكن بما هو «غائب»، والسبب له علاقة بالتأكيد في نقص الإمكانات المادية، أي الإنتاج بمعناه العربي. فالأغنيات، تغيب عن معظمها المقدّمات واللوازم الموسيقية واختُصِرَت المرافقة الموسيقية فيها إلى حدّها الأدنى (تصل إلى مرافقة بيانو على الطريقة الرومنطيقية، تذكّر بالليدر عند شوبرت). وهذا يصلح لتأمين بعض الحميمية التي يحتاجها المعنى، لكن طغيان هذا الجو يضع المستمع في مزاج واحد، وهذا له حسناته وسيئاته (أبرزها أن العمل يوحي كأنه غير نهائي لولا التنفيذ الموسيقي المُتقَن). كذلك، غياب الإيقاع، بمعناه الصوتي، أي الآلات القرعية (باستثناء في المحطة الشرقية الوحيدة) له حسناته وسيئاته (في هذا الزمن!). وهنا يمكن اللجوء إلى آلات غير مألوفة وليس بالضرورة إلى الطبلة أو الدرامز، لكن النبرة القرعية ضرورية أحياناً في تلوين الأغنيات، ولو انتمت معظم الأغنيات، جذوراً، إلى تجارب غنائية أوروبية وأميركية في فترة ما بين الحربين العالميتين.
من صوتها الرقيق والمهذّب وأخلاقها العالية وخجلها الذي ينتمي إلى زمن البراءة المنقرِض، سنسمع الليلة من مايا حبيقة أغنيات عدة من ألبومها «ورد»، بالإضافة إلى بعض الكلاسيكيات اللبنانية والعربية وثلاث أغنيات من ألبوم جديد.

* أمسية مايا حبيقة: 20:00 مساء اليوم ــ متحف الصابون (صيدا ـ جنوب لبنان)