بعد قراءة «سجلات السلب ـــ أملاك اللاجئين الفلسطينيين والصراع العربي الإسرائيلي»، سيكتشف العرب (بالتفاصيل) أنهم أضاعوا في فلسطين أكثر مما يتصورون بكثير. للوهلة الأولى، قد يبدو الموضوع العائم في خيالات الباحثين منذ النكبة، مجرد شعار على حافة النوستالجيا العربيّة. بالنسبة إلى كثيرين، سيبدو جزءاً من ترداد سيمفوني لأناشيد الخسائر الكبيرة التي حلّت بالذين غادروا بيوتهم لفترةٍ لم يكن باستطاعتهم تقديرها بدقة. بيد أنّ ذلك ليس موجوداً أبداً في حسابات المؤرخ الأميركي مايكل ر. فيشباخ المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط الحديث.
في كتابه الذي صدر بالإنكليزية عام 2003، قبل أن ينتقل أخيراً إلى المكتبة العربية بمبادرة من «مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة» (تعريب سميح حمودة)، يشعر المتجول بينها بأنّ الكاتب بذل مجهوداً لافتاً كي لا يفلت منه أي تفصيل، أو تشده عاطفة طارئة عن المنهج الأكاديمي القويم في البحث. دقّق فيشباخ بعناية في «الشهادات الصامتة». لفترة طويلة، حُفظت السجلات/ الشهادات في أدراج الصراع الحاد.
يلمس القارئ انطباعاً حازماً بأنّ الاحتراب بين العرب والإسرائيليين في 1967 و1973 تحديداً، أسهم في تحويل السجلات إلى مواد هامشيّة، أمام النزاع الذي استدعى التركيز على القوى العسكرية، والتموضع في خنادق الحرب الباردة.
ليس بإمكان الإسرائيليّين إنكار وثائق فيشباخ الذي وجد كماً وافراً منها في الأمانة العامة للأمم المتحدة، وتذكّرها بحميميّة بالغة، حين مالت طائرته العائدة إلى بلاده فوق مانهاتن (نيويورك). حدث ذلك أثناء عودته إلى بلاده، بينما لم يعد 726 ألف فلسطيني، هُجِّروا في 1948 وحدها، وكانوا نصف السكان العرب آنذاك. وإذ نتحدث عن لاجئين، يقتضي ذلك تذكيراً بات ضرورياً بأنّ هؤلاء تركوا أعمارهم خلفهم. وكما يذكر الكتاب، نتحدث هنا عن مزارع ومعدات وحيوانات وبيوت ومصانع وحسابات مصرفيّة ومقتنيات شخصيّة وقصص في كل ناصية. صادر الإسرائيليّون لاحقاً كل شيء، بعد الهجرة الجماعيّة، وهذا ليس خافياً على أحد، لكن ميزة الكتاب أنه يفصّل المصادرات الإسرائيليّة من دون أن يكون حياده مجانيّاً ومفتعلاً، بل يبدو حياداً لمصلحة الحقيقة، إذ لا يفوته الانحياز إلى أصحاب الحقوق، منذ اللحظة التي يتناول فيها إصرار الإسرائيليين على عدم حدوث أي عودة جماعيّة، وصولاً إلى استخدامه مصطلحات دقيقة لا يحبّ العالم أن يسمعها اليوم تحاشياً لصدقيتها. بالفعل، يفسّر الفصل الأول مسألة التطهير العرقي، والمسارعة إلى مصادرة الأملاك، لمحو آثار العودة محواً تاماً. ولعل الصورة النمطيّة التي يحفظها الكثير من اللاجئين ويظهر فيها مسنّ أو مسنّة يحملون مفتاحاً قديماً، تحتاج إلى عمل جدي لتظهير الكثير مما ورد في كتاب المؤرخ الأميركي.
المفاجأة الكبرى هي تعريف «الغائب» في القوانين الإسرائيليّة الأولى التي تلت النكبة الفلسطينيّة. اعتبرت سلطات الاحتلال أن الغائبين هم أولئك الذين «فرّوا إلى أراضٍ عربيّة»، حتى وإن لازم هؤلاء بيوتهم أو عادوا إليها. وبحلول كانون الأول (ديسمبر) 1952، كانت السلطات قد استثمرت 95344 دونماً من الكروم المهجورة، نصفها لمصلحة المستوطنات التي كانت قيد البناء. في الواقع، كانت فلسطين ثالث أكبر مصدِّر للبرتقال في العالم بين 1936 و1937، وهذا على سبيل المثال، رغم أنه يدل على أهميّة هذه الكروم من الناحية الاقتصاديّة أيضاً، وقد وجدت هذه الكروم مستثمرين إسرائيليين جاهزين، لم يرغبوا في استثمار الزيتون، بوصفه زراعة عربيّة تقليديّة. على هذا المنوال، دارت عجلة الاقتصاد الإسرائيلي: فوق تاريخ الفلسطينيين الذين راقبوا كل شيء خلف الحدود. استفاد الإسرائيليّون من عائدات تأجير مقالع الحجارة المهجورة، الأراضي المزروعة، المباني الحديثة، المباني القديمة، البساتين والكروم ... لم يكن هذا أمراً سائباً كما يبدو، بل ترجمة ممنهجة لاقتراح إسرائيلي فذّ قدمه بعض المسؤولين في الصندوق القومي اليهودي، لشراء «الأرض الفائضة» في القرى المهجورة، بداية 1948. المفارقة المؤلمة أنّ المسؤولين الذين نتحدث عنهم، كانوا مقتنعين بأن الفلسطينيين سيعودون، وإن كانوا يميلون إلى الاعتقاد بأن العودة ستكون محصورة بعقارات أقل من سابقتها. والحال أن الإسرائيليين حصلوا على أكثر مما توقعوا أنفسهم بكثير، بعدما تحول العالم بأسره سريعاً إلى شاهدٍ صامت على سلب الفلسطينيين.
في الفصول الرحبة، يعرض الكاتب محاولات العالم لاحقاً للتدارك، رغم أنها محاولات لا تستحق النعت الأخير. يعرّج على مؤتمرات فاشلة بما فيه الكفاية لاتهام القائمين عليها بالاشتراك في الجريمة، مؤتمر باريس مثالاً. والحال أنّ اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين فشلوا في دورهم في تحقيق أي مكتسب بشأن أملاكهم التي تركوها في البلدان العربية. ويبدو لافتاً في هذا الإطار أنّ فيشباخ يفرد مساحة لأملاك اليهود الليبيين، ما بعد انقلاب العقيد معمر القذافي. لقد كانت الأنظمة العربيّة منذ منتصف السبعينيات، حالها حال اليهود المهاجرين إلى بلاد الفلسطينيين، والفلسطينيين اللاجئين إلى بلاد الأنظمة العربيّة، عرضة لفترة طويلة من الركود في الصراع العربي ـــ الاسرائيلي تحديداً على المستوى القانوني. هكذا انكفأت مسألة أملاك اللاجئين عموماً، إلى حالةٍ من الغياب النسبي في السبعينيات والثمانينيات.
بطبيعة الحال، لم يعد يكترث بالحقوق المادية لهؤلاء سوى حفنة من الشغوفين النادرين بحقوق الإنسان. ومع مرور الوقت، تبيّن أن الحق المعنوي للشعب الفلسطيني، والإضاءة الساطعة عليه من دون الربط بينه وبين الحقوق الأخرى، أسهما في خفوت الأخيرة وذوبانها في الشعار العملاق. لعلهم قلة الذين حاولوا التصدي لهذه القضية بإخلاص، وأبرزهم، الاقتصادي يوسف صايغ الذي يعرف العارفون حجم خلافاته المتأخرة مع منظمة التحرير الفلسطينيّة وزعيمها الراحل ياسر عرفات. أعدّ صايغ دراسة مهمة (1964) بتقدير فيشباخ، لأسباب عدة، أبرزها أن تقديرات صايغ جاءت مختلفة عن تقديرات العرب الآخرين التي وضعت في الخمسينيات وعبّرت عن الخسائر على مقاييس اللاجئين الأثرياء، بينما حاول صايغ الوصول إلى تقدير شامل يشمل الخسائر الإجماليّة للمجتمع الفلسطيني عام 1948. في 1964، كانت الخسائر تقريباً تقدّر بنحو 7567 مليار جنيه فلسطيني، وهو رقم، بحسابات تلك الفترة من العالم، أكبر بكثير مما هو الآن. واليوم، لم يفت الوقت. الوثائق الغزيرة التي استند إليها فيشباخ تؤكد أن حقوق الفلسطينيين السليبة أهم بمئات المرات من مجموع الخطابات العديمة الفائدة التي يلقيها جميع قادة الفصائل الفلسطينيّة، على مسامع أصحاب الحقوق، بدلاً من أن يصوّبوا حقوقهم المهمشة في وجه العالم.

يمكنك متابعة أحمد محسن عبر تويتر | @Ahmad_Mohsen