عُرف عن الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان أنها كانت ميّالةً إلى مصادقة النفس والعزلة والتوحد، جادّة وقليلة الكلام. فقد اعتكفت على عالمها الداخلي ومشاعرها الخاصة، بعدما توالت عليها المحن في حياتها. إذ توفي والدها ثم أخوها ومعلمها إبراهيم طوقان، وأعقب ذلك نكبة فلسطين 1948، مما ترك أثره البارز في نفسيتها وانعكس على باكورة شعرها «وحدي مع الأيام» (1952). ثم بعد ذلك عُرف عنها نشاطها الثقافي والنضالي، ولا سيما بعد نكسة 1967، جنباً إلى جنب محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي وغيرهم.وفي لحظة مبتهرة من الزمن، جرى قلمها بتدوين سيرتها الذاتية على صفحات مجلة «الدوحة» في وقت متأخر من عمرها؛ في حلقات بين تشرين الأول (أكتوبر) 1983 وآب (أغسطس) 1984.  كانت السيرة مفاجئة لكثيرين، ولقيت استحسان من قرأها، فلم يمنعها المجتمع الذكوري المحافظ الذي نشأت فيه من أن تكشف عن جرأة مدهشة في البوح والاعتراف. فقد قدّمتْ فدوى – كما رأى الناقد المصري رجاء النقاش، «شيئاً جديداً هو التعبير بصدق وصراحة عن هموم المرأة العربية».
كذلك كتبت فدوى الرسائل ونفّست بها عن جروحها الداخلية. ولم تكن كثيرة الظهور في وسط الصحافة الأدبية؛ إذ لم يزد عدد الحوارات التي أُجريت معها بين عامي 1962 و2003، بالكاد على العشرة، جمعها يوسف بكار في كتاب سمّاه «حوارات فدوى طوقان» (عمان، 2010)

رسائل البوح الأسير
كتبت فدوى طوقان الرسالة وجلست إليها مثلما تجلس إلى القصيدة، فأطلقت فيها عنان بوحها واعترافها لمن تحبّ وتثق فيه. غير أنّها لم تكشف عن هذه الرسائل قيد حياتها، ولا ظهر لها أثر بعد موتها؛ كأنّ ثمة أسراراً ومواضيع شخصية لا تريد من العامة أن تصل إليها. وفي المقابل، أظهرت الرسائل التي وصلتها ممن أخلصوا لها ومحضوها الحبّ، ولا سيما من أخيها الشاعر إبراهيم طوقان ومن الناقد المصري مصطفى المعداوي.
فقد نشر الشاعر الفلسطيني المتوكل طه مجموعة من الرسائل التي وصلتها في ميعة الصبا، من أخيها الأكبر إبراهيم طوقان (ت. 1941). كانت الرسائل بمثابة حوار بين شقيقين جمعتهما رابطة الدم وكتابة الشعر؛ حيث كان الشقيق الأكبر يحبّ شقيقته الصغرى ويتطلع إلى أن تكون «شيئاً» ذا قيمة في يوم ما، فكان يعلمها النحو والصرف وكيفية نظم الشعر وتناول الموضوعات (الرسائل والمحذوف، رام الله، 2010).

وفي أواسط السبعينيات، ظهر كتاب تحت عنوان «بين المعداوي وفدوى طوقان صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر» (دار المريخ للنشر، الرياض، 1990)، وثّق فيه الناقد المصري رجاء النقاش قصّةَ حب يزعم أنها جمعت بين فدوى وأنور، لكن عن طريق الرسائل وحسب، على غرار رسائل جبران ومي زيادة. فهما «لم يلتقيا على الإطلاق وإنما اكتفيا بتبادل الرسائل وكتابة الأشعار حول هذا الحبّ». بيد أن الكتاب لا يتضمّن سوى رسائل أنور المعداوي إلى فدوى طوقان، وهي نحو سبع عشرة رسالة متفاوتة في الحجم، فيما أتلف أنور قيد حياته رسائل فدوى وفاءً بعهد قطعه على نفسه. وتعترف فدوى في ما بعد أنّه «كان هناك حب حقيقي، وعبرت عنه بأكثر من قصيدة». وفي رسالة إلى رجاء النقاش، تعترف بأنها أساءت النية بحبّ أنور لها، بسبب انقطاع مراسلاته المفاجئ بين حين وآخر. وحين علمت بحقيقة مرضه الذي عجّل بموته، ملأها «حزن شديد، وندم قاتل» على حد تعبيرها.
لقد نشر رجاء النقاش هذه الرسائل التي كانت بحوزة فدوى، وحلّل حيثياتها وما فيها من أبعاد ومعانٍ، وهو يريد بذلك «الخوض في الحياة الشخصية للأدباء» لتفسير معطى غامض في حياة هذا أو تلك، من غير إسفاف أو بدافع ثرثرة وفضول.
عدا هذه الرسائل المعدودة، لم تظهر في حياة فدوى طوقان رسائل شخصية غيرها، ولا ظهرت حتى بعد موتها عام 2003. فقد كانت – كما قلنا- ميالة إلى مصادقة النفس، متكتمة على أسرار عالمها الشخصي، هيّابة من أن يذيع سرٌّ منها بين الناس. ولهذا، كانت تتحفّظ إلى حدّ ما في منسوب بوحها الرسائلي، أو تطالب من تراسلهم أن يقطعوا عهداً بحفظها، أو يتلفوها إذا لزم الأمر كما في حالة المعداوي.
حتى قادتنا الظروف إلى بعض رسائل فدوى بخطّ يدها الجميل، لا تزال محفوظةً تنبض بكلّ كلمة من عالمها الذاتي الخصيب والرحب، تبادلتها مع الأديبة الأردنية ثريا حداد منذ فترة رئاستها لرابطة راهبات الوردية في عمان منذ ستينيات القرن العشرين، قبل أن تنتقل إلى أميركا وتعمل أستاذة اللغة العربية لغير الناطقين بها في «جامعة جونز هوبكنز». وقد استمرت هذه المراسلات بينهما من بدايات الستينات إلى حين رحيلها عام 1996 بعد معاناتها مع المرض.

جسر الغيريّة
لا تخلو الرسائل التي كتبتها فدوى إلى ثريا، وهي نحو ثلاثين رسالة تطول وتقصر، من بوح واعتراف؛ ليس لأن فدوى تخاطب أديبة ومثقفة من بنات جنسها تقدر مكانتها وتكنّ لها الاحترام، بل كذلك وجدت فيها المرآة التي تعكس أخاديد نفسها وجراحها الشخصية، كما وجدت أنّها شربت من نفس الكأس المرّة التي شربت منها، إلى حد أن يتماهى الأنا والآخر ويتوهجان عبر رهان الغيرية.
في واحدة من رسائلها، مؤرخة بـ 19/2/1982، تعترف فدوى لثريا بقولها: «لقد انتهيت إلى يقين أكَّد لي أنك خير صديقة يمكن أن يصطفيها قلبي، وأنني أستطيع أن أفضي إليك دون حرج بكلّ ما بداخلي، فأتحدث بارتياح وبلا تحفُّظ، وأبرز أمامك نقاط ضعفي ونواحي نقصي، وأنا متأكدة من أنّك على استعداد لتقبل وتفهّم أخطائي الإنسانية. لقد أعطيتني الثقة بأنّك صديقة حقيقية تعتبر نفسها أنّها هي أنا، وأنّها لا يمكن في يوم من الأيام أن تأخذ ضدي ما أفضي به إليها». وحين قضت ثريا تحت تأثير التجربة القاسية للمرض، صدمت فدوى وأشعرها رحيلها بـ«مدى الفراغ الذي تركته في حياتي. إنّه فراغ موحش وأليم».
بهذا المعنى، ينبغي أن نفهم قوة هذه الرسائل وشفافيّتها وأصالتها في آن معاً، وأن يكون ذلك حافزاً آخر لا يثنينا عن نشرها ومقاسمتها مع محبّي الشاعرة في كل زمان ومكان. فليس من اللائق أن تظل الرسائل «طيّ الكتمان»، وفدوى طوقان باعتبارها شاعرة مؤثرة في عصرها وبعده، هي شخصية عامة ومعروفة تملكها الحياة الثقافية والأدبية أكثر مما يملكها الأهل والأصدقاء. كما أنّ من حق القراء أن يغنموا شيئاً من سيرتها في الحياة ليزدادوا فهماً لديوانها الشعري الذي خلّفته وراءها، ذلك العمل الخاصّ الذي لا ينفصل البتّة عن مزاجها وموقفها الشخصي ورؤيتها للذات والأشياء والعالم.
لقد كانت الشاعرة صادقة وحرّة في مجموع ما كتبته شعراً ونثراً، ولم تكن تلهث وراء مغنم أو شهرة، وظلّت تتوهج بين العادي والبسيط كامرأة تحبّ وتشكو وتغضب، وبين الرمزي الأسطوري الذي يرفعها إلى درجة شاعرة فلسطين وأمّها بكل ما في الوصف من أبعاد تتعالى على الزمني والمتعيّن. هنا مقتطفات من كتاب «رسائل فدوى طوقان إلى ثريا حداد ــ أضواء جديدة على حياتها وشعرها» الذي صدر أخيراً عن «دار طباق» (رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى، 2018)