ننتظر الطوفان! 9/ 2/ 1978

عزيزتي ثريا
لك التحية والمحبة والشكر على الدماثة والهدايا والصورة. ردك على رسالتي ممتع، ورأسك العامرة بالعقل والحكمة ووضوح الرؤية لا تستحق الأوجاع. أرجو أن تكوني الآن ودائماً في أحسن حال. لم أكتب إليك حتى اليوم لأننا نعيش هنا قلقنا السياسي الذي يصرفنا حتى عن الخلوة بأنفسنا لنتحدث إلى أصدقائنا الأعزاء. الجسر الذي مدّه السادات على الهاوية تحطم تحت قدميه قبل الوصول ولكنه «يهدد» بأنه «سيلخبط» الدنيا إذا لم تسلحه أميركا كما تسلح إسرائيل.
هذه هي حياتنا العربية يمتزج فيها دائماً المضحك بالمأساويّ، والعالم العربي كرجل عاجز مكسح القدمين يتلقى الضربات من كل جهات الأرض ولا راحم إلّا الله الذي يبدو أنه قد هجرنا إلى غير رجعة. أغبطك على غربتك الجغرافية، فالهجرة والعمل وراء حدود الوطن وجه من وجوه النشاط الإنساني، والإنسان توّاقٌ دائماً لاكتشاف المجهول واختراق الآفاق الجديدة.
إنّما الغربة الحقيقية هي غربتنا هنا في أرض الوطن تسحقنا نعال الاحتلال الفاشيستيّ ويلتف علينا ثعبان الاستيطان.. ننتظر الطوفان لعله يجيء فيغسل الأحزان ولكن كل المؤشرات تقول: لا خلاص! صدقيني إن مجرد الحياة في قلب هذا الواقع المريع شجاعة وبطولة، فاللهم زوّدنا بمزيد منها. كل ذنبنا نحن الفلسطينيين أننا نرفض الانقراض كالهنود الحمر وأننا نتناسل كثيراً، وهذا مما يجعل أمن إسرائيل مهدّداً بالأطفال الذين لم يولدوا بعد. أكتب لك الآن والبلدة مغلقة والجيش يلاحق الأطفال الذين يرجمون الدبابات بالحجارة.. ويعتقل تلاميذ المدارس.. ويسب ويشتم ويتميز غيظاً من هذا الشعب الذي لا يعرف الخوف ولا الاستسلام.
عفوك يا ثريا وسامحيني على هذا الحديث الكئيب. لعلنا نلتقي في عمان ولكني سأسافر إلى إسبانيا في الصيف.
لك حبي ـــ فدوى

نعاني حالة كئيبة من الهبوط المعنوي...
نابلس 2/ 5/ 1979


ثريا الغالية
كلمة خاطفة. وصلت الرسالة مع ألف شكر. سأكتب إليك مطولاً. الآن مثلي مثل الآخرين هنا، كلنا نعاني حالة كئيبة من الهبوط المعنوي. حقق «السلام» أهداف بيغن التوسعية: استمرار السيطرة على الأرض والمباني والسكان ومصادر المياه. الأخبار السيئة تنهمر، ونحن نواجه خطر الاقتلاع من الجذور وفقدان الهوية. لا تعني «الإدارة الذاتية» شيئاً أكثر من إدارتنا لشؤوننا المحلية – إدارة للسكان وليس للأرض- التي أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية مئة بالمئة. يعني أصبحنا أقلّية كالأكراد في إيران والعراق أو باسك إسبانيا.. أقلية تابعة ومملوكة لدولة تمارس سيادتها على الأرض.
عجَّلت بهذه السطور القليلة فقط لأطمئنك على وصول رسالتك العزيزة، وآمل أن يرجع إليّ مزاجي لأتحدث إليك طويلاً. كيف صحة سيدتي الوالدة؟ أرجو أن أسمع أخباراً حسنة، لو عرفت بوجودها في عمان لسعيت إليها لأراها، فقد عدت أمس من عمان ووجدت رسالتك بانتظاري. لك كلّ حبي

لماذا كل هذا يا إلهي!؟
نابلس 19/2/1981


ثريا الحبيبة
هذه ليست رسالة ولكنها كلمة سريعة أرد بها على بطاقتك المعزِّية. كلماتك الصادقة مسحت على قلبي بيد حانية رقيقة، سلمك الله وعافاك مع من تحبين.
حبات العقد تنفرط حبة بعد حبة، موت ثم موت ثم موت، والفعل هذا مستمر لا ينقطع، سلَّمنا به على كره، وقلنا إنه الحقيقة الوحيدة في الوجود، تولد بذرته فينا منذ اللحظة الأولى من ميلادنا، وكلٌّ منا ينتظر دوره، فالمصير مفروض علينا ولا مفر ولا مهرب.
ليس هذا ما يقلقني ويشوشني، في حالة أخي أحمد كان الموت رحمةً وإنقاذاً له من عذاب جسديّ عانى شدته على مدى عام كامل. قال لي قبل شهور وأنا أقف أمامه بكل عجزي وضعفي الإنسانيّ: الانتحار أفضل من هذه الحياة، لماذا لا يأتيني الموت فأستريح. كان كالطفل، بلا حول وبلا قوة، حتى جرعة الماء كنَّا نقطِّرها في فمه تقطيراً.
ليس الموت هو الفاجع؛ الفاجع الحقيقي والسؤال الحائر هو: «لماذا كل هذا يا إلهي!؟»
هذا السؤال الصارخ الذي تجمعت فيه كل آلام البشرية، وجدت له المسيحية جواباً شافياً وحلّاً مثالياً لمشكلة الألم المحيّرة. أما الإسلام، فأوصى بالاستسلام والاتكال على الله فلا اعتراض على ما أراده الله وارتضاه وعلينا أن نتمسك بالصبر والإيمان.
مشكلتي يا ثريا أن السماء في نظري فارغة، فقلبي قد فقد الله منذ بعيد، ومع هذا الفقد انكسرت فيه تلك الدائرة السحرية التي تحيط بقلوب المؤمنين.
بعد وفاة أحمد بخمسة أيام، أصيبت شقيقتي التي أجاورها في السكن بنزيف في الدماغ، ضربها فجأة كالصاعقة وتركها مشلولة النصف الأيمن من جسدها، عاجزة عن الكلام والحركة. والمأساويّ في الواقعة أن شقيقتي ظلت طوال حياتها – وهي أصغر مني بعامين- ظلت تتصف دائماً بديناميكيتها التي لا تقف عن الحركة. كان العمل المنتج هو رئتها التي تتنفس بها ومصدر سعادتها وبهجتها. والأكثر مأساويةً الآن أنها عادت إلى حالة الصحو الطبيعي وأصبحت تعي وضعها العاجز كلياً، مما يسبب لها نوبات شديدة من الكآبة والحزن والقنوط. فلماذا كل هذا يا إلهي؟!
يؤسفني يا ثريا أن يصبغ كلماتي إليك هذا اللون القاتم، ولكنك أخت وحبيبة أبثّها بعض ما بي، فأجد التخفيف والتطهير من الألم في هذا الوقت الصعب. على كل حال، الطبيب غير يائس وإنما الأمر يأخذ وقتاً، والتحسُّن في مثل هذه الحالات يكون بطيئاً ولكن ليس ميؤوساً منه.
أتطلع إلى لقائنا بأمل وشوق. إذا لم يحدث ما يعيق فليكن لقاؤنا بلندن في شهر مايو وأرجو أن ألقاك هناك بخير وعافية.
مع كلّ الحب – فدوى

مقتطفات من كتاب «رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد: أضواء جديدة على حياتها وشعرها» (أعدها للنشر: سمير حداد، راجعها وقدم لها: عبد اللطيف الوراري) ــ «دار طباق» (رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى، 2018)