الدعوات للحوار مع المجتمع الإسرائيلي أو المثقفين الإسرائيليين والشروع بمثل هذا الحوار، من قبل مثقفين وإعلاميين عرب، كانت تندرج ضمن سياسات القوى التي أخذت بخيار التسوية في المنطقة منذ بداية ما سمي بعملية السلام في بداية تسعينات القرن الماضي. ما كان ليتجرأ أي من هؤلاء على توجيه دعوات مشابهة والمباشرة بترجمتها على أرض الواقع لولا موافقة وتشجيع الأنظمة والقوى السياسية المنخرطة بالمسار التفاوضي. تفتقت الأذهان العبقرية لهذه الأطراف يومها عن فرضية أن الحوار مع المثقفين وصناع الرأي في إسرائيل، خاصة أولئك المؤيدين «للسلام»، سيتيح بناء جسور الثقة مع قطاعات وازنة من المجتمع الإسرائيلي وكسبها لصالح خيار التسوية مع العرب المستند إلى مبدأ «الأرض مقابل السلام».
رون ويل
كذّبت جميع التطورات اللاحقة هذه الفرضية، بل نسفتها من الأساس وتلازمت التنازلات السياسية العربية الرسمية في المفاوضات مع إسرائيل، واستماتت حمائم السلام في خطب ودّ مجتمعها مع جنوح هذا الأخير نحو أقصى اليمين القومي والديني، إلى درجة دفعت رئيس الكنيست الأسبق أبراهام بورغ والمؤرخ المعروف زئيف سترنهل والصحافي جدعون ليفي وغيرهم إلى الجزم أن الكيان الصهيوني في طور التحول نحو الفاشية. ماتت عملية التسوية ودفنت إسرائيل رسمياً جثتها المتحللة عندما صوّت الكنيست على قانون «الدولة القومية للشعب اليهودي» الذي يكرس يهودية الدولة ويمنح اليهود وحدهم حق تقرير المصير على «أرضها التاريخية». وأتت جملة قرارات أميركية سبقت وتلت التصويت ـــ أبرزها نقل السفارة الأميركية إلى القدس وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ووقف تمويل وكالة الأونروا من قبل الولايات المتحدة ــ أكّدت أن الراعي الأساسي لعملية التسوية، «عراب الخداع» كما يسميه المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي، قد تخلى عن ثوابتها التي انطلقت على أساسها.
«صفقة القرن» ليست استمراراً لعملية التسوية المقبورة، بل هي محاولة لبناء تحالف عربي- إسرائيلي في مواجهة إيران ومحور المقاومة وشرعنة الأمر الواقع الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، أي السماح بضم القسم الأكبر منهما لكيان العدو وحصر الفلسطينيين في أرخبيل المعازل الخاضع لسيطرة السلطة الفلسطينية. السياق الدولي والإقليمي اليوم يختلف نوعياً عن ذلك الذي ساد في بداية تسعينات القرن الماضي حين خرجت الولايات المتحدة منتصرة من مواجهتها مع الاتحاد السوفياتي ودمرت العراق للمرة الأولى بحجة تحرير الكويت، وظن البعض أن التاريخ انتهى وأن المنطقة والعالم محكومان بالخضوع «للسلام الأميركي».
انسحب المشاركون العرب من الجلسة... وظلّت عليا ابراهيم والصحافي الإسرائيلي!

آنذاك، انبرى جيش من المثقفين العرب للدفاع عن ضرورة التسليم بموازين القوى القائمة باسم الواقعية والتخلي عن «أوهام» التحرير والتغيير والانصراف إلى قضايانا الداخلية كالدفاع، الانتقائي حسب البلدان العربية، عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والاندماج في مسار العولمة الواعد. لكن بعد تجربة امتدت نحو ثلاثة عقود وانتهت إلى ما انتهت إليه الآن، لم يعد لحمائم العرب من قضية للدفاع عنها أمام شعوب المنطقة المنكوبة بحروب أميركا وإسرائيل المتتالية. أيّ تساؤل جدي عن سرّ إصرار قسم منهم على الدعوة إلى الحوار والتفاهم مع الإسرائيليين والمشاركة العلنية معهم في منتديات حوار ومراكز دراسات في عواصم الغرب والشرق يفضي حكماً إلى استنتاج وحيد: نحن أمام مساعي ارتزاق فردية وتوق للشهرة ورغد العيش تتخذ جميعها من آخر «قصة نجاح» إحداهن، حنين غدار، قدوة ومثالاً. التبشير بالسلام مع الإسرائيليين أو مجرد الاستعداد للجلوس معهم في مؤتمر أو ندوة والتحريض على أعدائهم، كفيل ــ برأي احتياطي الارتزاق العربي ـــ بنيل رضى جماعات الضغط الموالية لإسرائيل الواسعة النفوذ في الغرب والحصول منها على «مكافأة العمر» التي تفتح آفاقاً مهنية ومادية طالما حلم بها.

حنين غدار «من المحلية إلى العالمية»
حنين غدار، لمن لا يعرفها صحافية شابة، بدأت نشاطها السياسي مع مجموعات يسارية طلابية في الجامعة الأميركية في بيروت. كتبت في «السفير» و«النهار» و«الحياة» قبل أن تصبح رئيسة تحرير موقع «ناو ليبانون» المملوك من شركة «كوانتم» الذي أشرف مؤسسها إيلي خوري على إنشائه. ومما يجدر ذكره أن «كوانتم» حظيت بنصيب وافر من المساعدات من برامج تمويل الخارجية الأميركية وكذلك من برامج وزارة الدفاع. التحوّل الفعلي في الحياة المهنية لغدار، الذي سمح لها بالتحول من صحافية إلى «زميلة زائرة» في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، وهو أبرز مركز دراسات للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وخبيرة مكرسة في شؤون الشرق الأوسط، والشؤون «الشيعية» بشكل خاص، من قبل وسائل الإعلام الأميركية، هو مشاركتها في ندوة في معهد واشنطن إلى جانب رسميين إسرائيليين عام 2014 . هذه المشاركة والهجوم الذي تعرضت له بسببها في لبنان، كانا رافعة لنقلة نوعية في حياة غدار انتقلت بفضلها من متعاونة محلية مع موقع إعلامي ممول أميركياً إلى «خبيرة» في مركز إسرائيلي يؤثر على صناع القرار في واشنطن. النقاش حول دوافع ما، سياسية أو فكرية، حدت بها للعمل مع اللوبي الإسرائيلي هو مضيعة للوقت أو محاولة للتخفيف من هول ما فعلته. الدافع هو الارتزاق فقط.

انهيار العالم العربي فرصة للمصالحة مع إسرائيل
وإذا كانت غدار تفعل ما تفعله في الولايات المتحدة، فإن آخرين بدأوا من بيروت يتجرأون على المناداة بتحويل ما يعتبرونه «انهياراً للعالم العربي-الإسلامي» إلى فرصة عبر التسوية مع إسرائيل. هذا ما قاله الخبير الاقتصادي فؤاد خوري الحلو في «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت» في الشهر الحالي ضمن ندوة نظمت في إطاره بعنوان «الانتفاضات العربية: مصائر مشتركة ومتباينة». رأى الحلو في مداخلته أن ما يحتاجه العرب اليوم هو قائد كالسادات مستعد للذهاب إلى إسرائيل للتفاوض والتوصل إلى تسوية معها.

اعتبر فؤاد خوري الحلو في «معرض الكتاب» في بيروت أن ما يحتاجه العرب هو قائد كالسادات!

وهو قد اعتبر في كتاب ارتكبه بعنوان «انهيار العالم العربي-الإسلامي، المعضلة العربية: إسرائيل بدلاً من إيران؟» أن الصراع الرئيسي في المنطقة بات ـ نتيجة تضافر جملة عوامل بنيوية وظرفية ـ يدور بين تكتلين إقليميين: أحدهما شيعي والآخر سني وأن احتدامه سيسمح بتسوية القضية «بطريقة تحفظ ماء وجه الجميع»، وتسهل بناء تحالف «عربي سني» مع إسرائيل في مواجهة إيران وحلفائها. وسبق للحلو أن أكد في مقال كتبه في «الأوريان لو جور» أن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، سيفضي إلى إحياء وتسريع عملية التسوية بعكس ما يعتقده منتقدوه. من بيروت يتجرأ البعض على دعوة الأعداء إلى استغلال أزمات المنطقة لتنفيذ مخططاتهم ولا ضرورة لمناقشة الدوافع الفعلية لمن يطلقها، فهي جلية.

تطبيع في هونغ كونغ
أشرفت الصحافية عليا ابراهيم، المديرة في موقع «درج»، على إدارة جلسة، في مؤتمر Hong Kong digital media عقدته مؤسسة wan Ifra في هونغ كونغ في السابع والثامن والتاسع من الشهر الحالي بحضور الإعلامي الإسرائيلي غريغ دافيدوفيتز المسؤول السابق لموقع «هآرتس» الإلكتروني والمدير الحالي لشركة RGB media الإسرائيلية. وعلى الرغم من انسحاب المشاركين المصريين والعرب من الجلسة، إلا أنّ عليا ابراهيم أصرّت على انعقاد الجلسة وعلى إدارتها. لم تحاسب ابراهيم على فعلتها وما زالت في موقعها في «درج»، مما يكشف أن القيمين عليه لا يعارضون ما قامت به إن أحسنّا النوايا. احتياطي الارتزاق يتجاوز كل الخطوط الحمر مراراً وتكراراً، وسيدفعه غياب ردود الفعل الحاسمة إلى التمادي. هذا الكلام برسم جميع المعنيين بالصراع مع العدو لتدارس الردّ السياسي والقانوني المناسب لردع هؤلاء وصدّ غيّهم.