منذ سبع سنوات، يعود جو قديح كل عام بعرض «ستاند أب» جديد، لكن هذه المرة، اختلفت الصورة بتنحّي قديح عن خشبة المسرح كمؤدٍّ. هي خطوة جريئة ومغامرة يقوم بها، بعدما بنى علاقة مباشرة وحية مع جمهور اعتاد حضوره وتفاعله معه على الخشبة، من أجل تقديم حياة امرأة ثلاثينية تواجه تغييرات محبطة في حياتها النفسية والاجتماعية. في «ريما» (تأليف وإخراج جو قديح)، تؤدي الدور روزي يازجي، التي شاركت سابقاً في أعمال لزياد الرحباني وروجيه عساف وألان بليسون.
من المجحف المقارنة بين قديح الذي تمكّن عبر السنوات من لعبة التفاعل مع الجمهور، أو ما نعبر عنه في عالم المسرح بالـ Ping Pong مع الجمهور، ويازجي التي تقف للمرة الأولى وحدها على الخشبة في مواجهة جمهور عريض، ذي توقعات عالية من حيث التفاعل والأداء في عروض قديح.
برغم صعوبة الموقف، نالت يازجي إعجاب الجمهور الذي تقبّلها منذ لحظة دخولها الى المسرح. ولعل في ذلك ثقة من الجمهور بأي ممثل يقدّمه نجمه قديح، لكن خلال العرض، أثبتت يازجي عفوية وخفة دم تأكّدت خصوصيتهما بعيداً عن خصوصية قديح من حيث الأداء. تمكنت من التفاعل مع الجمهور طوال العرض ولو أنّ التفاعل كان يمكنه أن يكون أقوى لو كان حضورها المسرحي أقوى من حيث الصوت (بدا مخنوقاً قليلاً) والإيقاع واللعب على لحظات الصمت، وهي ركائز أساسية يعتمدها الـ «الستاند آب كوميديان» في التفاعل مع الجمهور. لقد ارتفعت وتيرة التفاعل بعد مرور الوقت حين ارتاحت يازجي مع الحضور. من الطبيعي أن يحتاج المؤدي إلى عروض كثيرة كي يطور هذه العناصر التي يختبرها عبر عملية تمرّس طويلة بحضور جماهير مختلفة يتفاعل معها لا من خلال بروفات. لذا، يتوقع تبلور علاقة يازجي بالجمهور مع كل عرض، الى أن تمسك بدوزانه على نحو أفضل منذ البداية. تميز حضور يازجي لدى إنشادها أغنيات لبنانية وفرنسية فأسرت كل مَن في الصالة بصوتها الرائع، الذي حمل الجمهور الى عالم بعيد من الحنين والعذوبة، ومثل فسحة تأمل في عالم الضجيج التي تجسّده.
من حيث النص، اعتدنا قوة قديح ككاتب يرتكز على اللعب على الكلام، ومفاجأة الجمهور بقفشات غير متوقعة، والوصف المفصّل للمواقف وللعناصر البصرية في حكاية موجعة يجسدها على نحو كاريكاتوري مثير للضحك. هي العناصر ذاتها لم تتغيّر، لكنّ المضمون اختلف في أنّه قرّر هذه المرة تنحية الجغل الذكوري من أجل الغوص في تفاصيل صراعات أنثى مع نفسها وزوجها وأمومتها وعملها مروراً بمواقف كثيرة أخرى. يدخلنا قديح الى عالم المؤسسة الزوجية الفاشلة بعدما كان العشق في أوجه، فيدب الروتين بالعلاقة ما يؤدي الى نفور بين الزوجين يتجلى في خيانة «بونانزا» المتواصلة لريما، وفي أوجاع الرأس الدائمة عندها، وفي الأكل العاطفي كعوارض نفسية. يشرّح قديح العائلة المفككة بخيوط ذكية، مثيراً البعد النفسي وهو الجانب الذي لطالما يطرحه قديح في أعماله ليعطي صورة إنسانية متكاملة لشخصياته. لا ينسى طبعاً عاملة المنزل الأجنبية، التي أصبح وجودها أساسياً في كل عائلة لبنانية تقريباً، وتهتم بكل شيء وبكل فرد في المنزل. وقد مرت لحظات في العرض تخدش إنسانية العاملة حين تقول ريما مثلاً «إسمها كتير طويل بدي غير لها اياه»، فصارت تناديها بحرف واحد هو «بي». للأسف، هذا الأمر نسمع عنه في الكثير من المنازل، فالسلوكيات المهينة للإنسانية أصبحت عادة في مجتمعنا القائم على العنصرية. وقد قام قديح بنقل هذا الواقع الى الخشبة، لكنه كان من الجدير تأطير ذلك تحت خانة النقد أكثر من طرحه كأمر عادي يضحك منه الجمهور. جاء ذلك ضمن «فشة خلق» ريما من العاملة التي يخونها زوجها معها، وبسبب رفضها لجسدها الذي تغير بعد الولادة في عالم لا مكان فيه للبدينات.
يتفاقم الصراع النفسي الى أن تتعرى العائلة المفككة وتسقط الأقنعة كاشفةً عن منظومة حياة فاشلة مبنية على النفاق والخيانة. أتقن قديح ككاتب حياكة هذه الأفكار المهمة على المستويين النفسي والاجتماعي في قالب الكوميديا السوداء، لكن بعض الخيوط في النص جاءت ضعيفة في ربط بعض المواقف بالأحداث الأساسية، وخصوصاً حين ينحرف العرض في قفلة مفاجئة تأخذنا صوب مسار آخر بعيد عن فكرة العرض. بدت القفلة مقحمة غير مبررة من حيث المضمون كما بدت غير منسجمة مع طبيعة اللغة المسرحية التي اعتمدها طوال العرض.
«ريما» عرض مسلٍّ وخفيف ومضحك وموجع ذو أبعاد إنسانية استمتع به الجمهور وقدم ممثلة جديدة في عالم الـ «ستاند آب»، لعله يفتح الباب لقديح ويازجي لخوض مغامرات جديدة في المستقبل.




«ريما»: حتى 16 شباط (فبراير) ــ «مسرح الجميزة» ــ للاستعلام: 76/409109